وفيه تهكّم بالجنّ ، كما تتهكّم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجّته وظهر إبطاله ، بقولك : هل تبيّنت أنّك مبطل ، وأنت تعلم أنّه لم يزل كذلك متبيّنا؟
روي : أنّ داود أسّس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهالسلام ، فمات داود عليهالسلام قبل تمامه كما مرّ ، فوصّى به إلى سليمان ، فاستعمل الجنّ فيه ، فلم يتمّ بعد إذ دنا أجله.
وروي : أنّه كان من عادة سليمان عليهالسلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس سنة وسنتين ، وشهرا وشهرين ، وأقلّ وأكثر ، يدخل فيه طعامه وشرابه. فلمّا دنا أجله لم يصبح إلّا راى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى ، فيسألها لأيّ شيء أنت؟ فتخبر عن اسمها ونفعها وضرّها. حتّى أصبح ذات يوم ، فرأى الخرّوبة (١) فسألها. فقالت : نبتّ لخراب هذا المسجد. فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ. أنت الّتي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها في حائط.
وقال : اللهمّ عمّ (٢) على الجنّ موتي ، ليتمّوا بناء بيت المقدس ، وليعلم الناس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب ، لأنّهم كانوا يسترقون السمع ، ويموّهون على الإنس أنّهم يعلمون الغيب.
وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني.
فقال : أمرت بك ، وقد بقيت من عمرك ساعة.
فدعا الشياطين ، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلّي متّكئا على عصاه ، فقبض روحه وهو متّكئ عليها. وكان الجنّ يحسبونه حيّا ، لما كانوا
__________________
(١) الخرّوبة والخرنوبة : شجر مثمر من فصيلة القرنيّات ، دائم الورق ، منابته منطقة شرقيّ المتوسّط ، ثماره تستعمل لعلف الحيوان ، ويستخرج منه نوع من الدبس.
(٢) فعل أمر من : عمّى المعنى ، أي : أخفاه.