استئناف وقع تذييلا لما قبله من الوعيد والإنذار والاعتبار بما حلّ بالمكذبين ، وهو أيضا توطئة لقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) [القمر : ٥٠] إلخ.
والمعنى : إنا خلقنا وفعلنا كلّ ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلاتها وسلّطناه على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر ، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة.
واقتران الخبر بحرف (إنّ) يقال فيه ما قلناه في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر : ٤٧].
والخلق أصله : إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات ، ويطلق مجازا على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧].
فإطلاقه في قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
و (شَيْءٍ) معناه موجود من الجواهر والأعراض ، أي خلقنا كل الموجودات جواهرها وأعراضها بقدر.
والقدر : بتحريك الدال مرادف القدر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها.
والمراد : أن خلق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة ، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد [٨] (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ومما يشمله عموم كل شيء خلق جهنم للعذاب.
وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ* إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [الحجر : ٨٥ ، ٨٦] وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الدخان : ٣٨ ـ ٤٠] فترى هذه الآيات وأشباهها تعقّب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء. فهذا وجه تعقيب آيات الإنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) بعد قوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) [القمر : ٤٣] وسيقول : (وَلَقَدْ