وكل ذلك راجع إلى الاستدلال بقوة قدرة الله على إيجاد موجودات لا تصل إليها مدارك الناس ، انتقل الكلام إلى الاستدلال على إثبات البعث بدليل لا محيص لهم عن الاعتراف بدلالته.
فالتفريع على جملة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة : ٦٢] وهو أن عجزهم عن إرجاع الروح عند مفارقتها الجسد ينبههم على أن تلك المفارقة مقدّرة في نظام الخلقة وأنها لحكمة.
فمعنى الكلام قد أخبركم الله بأنه يجازي الناس على أفعالهم ولذلك فهو محييهم بعد موتهم لإجراء الجزاء عليهم ، وقد دلكم على ذلك بانتزاع أرواحهم منهم قهرا ، فلو كان ما تزعمون من أنكم غير مجزيين بعد الموت لبقيت الأرواح في أجسادها ، إذ لا فائدة في انتزاعها منها بعد إيداعها فيها لو لا حكمة نقلها إلى حياة ثانية ، ليجري جزاؤها على أفعالها في الحياة الأولى.
وهذا نظير الاستدلال على تفرد الله بالإلهية بأنّ في كينونة الموجودات دلائل خلقية على أنها مخلوقة لله تعالى وذلك قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥]. ومرجع هذا المعنى إلى أن هذا استدلال بمقتضى الحكمة الإلهية في حالة خلق الإنسان فإن إيداع الأرواح في الأجساد تصرف من تصرف الله تعالى ، وهو الحكيم ، فما نزع الأرواح من الأجساد بعد أن أودعها فيها مدة إلا لأن انتزاعها مقتضى الحكمة أن تنتزع ، وانحصر ذلك في أن يجري عليها الحساب على ما اكتسبته في مدة الحياة الدنيا.
وهذا كقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] ، فالله تعالى جعل الحياة الدنيا والآجال مدد عمل ، وجعل الحياة الآخرة دار جزاء على الأعمال ، ولذلك أقام نظام الدنيا على قاعدة الانتهاء لآجال حياة الناس.
أما موت من كان قريبا من سن التكليف ومن دونه وموت العجماوات فذلك عارض تابع لإجراء التكوين للأجساد الحية على نظام التكوين المتماثل ، وكذلك ما يعرض لها من عوارض مهلكة اقتضاها تعارض مقتضيات الأنظام وتكوين الأمزجة من صحة ومرض ، ومسالمة وعدوان.
فبقي الإشكال في جعل (تَرْجِعُونَها) من جملة جواب شرط (إِنْ) إذ لا يلزم من