بخروجه عن مكنته ، فإذا رسخ ذلك في علم أحد لم يحزن على ما فاته مما لا يستطيع دفعه ولم يغفل عن ترقب زوال ما يسره إذا كان مما يسره ، ومن لم يتخلق بخلق الإسلام يتخبط في الجوع إذا أصابه مصاب ويستطار خيلاء وتطاولا إذا ناله أمر محبوب فيخرج عن الحكمة في الحالين.
والمقصود من هذا التنبيه على أن المفرحات صائرة إلى زوال وأن زوالها مصيبة.
واعلم أن هذا مقام المؤمن من الأدب بعد حلول المصيبة وعند نوال الرغيبة.
وصلة الموصول في (بِما آتاكُمْ) مشعرة بأنه نعمة نافعة ، وفيه تنبيه على أن مقام المؤمن من الأدب بعد حلول المصيبة وعند انهيال الرغيبة ، هو أن لا يحزن على ما فات ولا يبطر بما ناله من خيرات ، وليس معنى ذلك أن يترك السعي لنوال الخير واتقاء الشر قائلا : إن الله كتب الأمور كلها في الأزل ، لأن هذا إقدام على إفساد ما فطر عليه الناس وأقام عليه نظام العالم. وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم للذين قالوا أفلا نتّكل «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له».
وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) تحذير من الفرح الواقع في سياق تعليل الأخبار بأن كل ما ينال المرء ثابت في كتاب ، وفيه بيان للمراد من الفرح أنه الفرح المفرط البالغ بصاحبه إلى الاختيال والفخر.
والمعنى : والله لا يحب أحدا مختالا وفخورا ولا تتوهم أن موقع (كل) بعد النفي يفيد النفي عن المجموع لا عن كل فرد لأن ذلك ليس مما يقصده أهل اللسان ، ووقع للشيخ عبد القاهر ومتابعيه توهم فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) في سورة البقرة [٢٧٦] ونبهت عليه في تعليقي على دلائل الإعجاز.
وقرأ الجمهور (آتاكُمْ) بمدّ بعد الهمزة محول عن همزة ثانية هي فاء الكلمة ، أي ما جعله آتيا لكم ، أي حاصلا عندكم ، فالهمزة الأولى للتعدية إلى مفعول ثان ، والتقدير : بما آتاكموه. والإتيان هنا أصله مجاز وغلب استعماله حتى ساوى الحقيقة ، وعلى هذه القراءة فعائد الموصول محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل ، والتقدير : بما آتاكموه ، وفيه إدماج المنة مع الموعظة تذكيرا بأن الخيرات من فضل الله. وقرأه أبو عمرو وحده بهمزة واحدة على أنه من (أتى) ، إذا حصل ، فعائد الموصول هو الضمير المستتر المرفوع ب (آتى) ، وفي هذه القراءة مقابلة (آتاكُمْ) ب (فاتكم) وهو محسن الطباق ففي كلتا القراءتين محسّن.