وهذا يغني عن احتمالات في تأويل التعليل من قوله : (لِيَعْبُدُونِ) من جعل عموم الجن والإنس مخصوصا بالمؤمنين منهم ، أو تقدير محذوف في الكلام ، أي إلا لآمرهم بعبادتي ، أو حمل العبادة بمعنى التذلل والتضرع الذي لا يخلو منه الجميع في أحوال الحاجة إلى التذلل والتضرع كالمرض والقحط وقد ذكرها ابن عطية.
ويرد على جميع تلك الاحتمالات أن كثيرا من الإنس غير عابد بدليل المشاهدة ، وأن الله حكى عن بعض الجن أنهم غير عابدين.
ونقول : إن الله خلق مخلوقات كثيرة وجعل فيها نظما ونواميس فاندفع كلّ مخلوق يعمل بما تدفعه إليه نواميس جبلته ، فقد تعود بعض المخلوقات على بعض بنقض ما هيّئ هو له ويعود بعضها على غيره بنقض ما يسعى إليه ، فتشابكت أحوال المخلوقات ونواميسها ، فربما تعاضدت وتظاهرت وربما تناقضت وتنافرت فحدثت من ذلك أحوال لا تحصى ولا يحاط بها ولا بطرائقها ولا بعواقبها ، فكثيرا ما تسفر عن خلاف ما أعدّ له المخلوق في أصل الفطرة فلذلك حاطها الله بالشرائع ، أي فحصل تناقض بين الأمر التكويني والأمر التشريعي.
ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوث المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة ، وكلمات أئمة اللغة فيه خفية والذي يستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضرّه ملكا ذاتيا مستمرا ، فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧].
فالحصر المستفاد من قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قصر علة خلق الله الإنس والجنّ على إرادته أن يعبدوه ، والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة ، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول (لِيَعْبُدُونِ) ، أي إلا ليعبدوني وحدي ، أي لا ليشركوا غيري في العبادة ، فهو ردّ للإشراك ، وليس هو قصرا حقيقيا فإنا وإن لم نطلع على مقادير حكم الله تعالى من خلق الخلائق ، لكنّا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مجرد أن يعبدوه ، لأن حكم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نحيط بها ، وذكر بعضها كما هنا لما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى ، ألا ترى أن الله ذكر حكما للخلق غير هذه كقوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] بله ما ذكره من حكمة خلق بعض الإنس والجن كقوله في خلق عيسى (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) [مريم : ٢١].