وقال الإمام الزمخشري ـ رحمهالله ـ فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم؟.
قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة الشأن للعدو ، وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتياث أمرهم ، وأن غلبتهم في هذه الحال ليس إلا صنعا من الله ـ سبحانه ـ ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته.
وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون ، كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها. ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبار ـ أى أرض لينة رخوة ـ تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة.
وكانت العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذب عن الحريم على بذل جهودهم في القتال.
وفيه تصوير ما دبر ـ سبحانه ـ من أمر غزوة بدر (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ومن إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج ، وأقلق قريشا ما بلغهم من تعرض المسلمين لأموالهم ، فنفروا ليمنعوا عيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب في ساق ، وكان ما كان» (١).
وقوله : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) بيان لتدبير الله الحكيم ، وإرادته النافذة.
أى : ولو تواعدتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لتخلفتم عن الميعاد المضروب بينكم ، لأن كل فريق منكم كان سيتهيب الإقدام على صاحبه ، ولكن الله ـ تعالى ـ بتدبيره الخفى شاء أن يجمعكم للقتال على غير ميعاد ، ليقضى ـ سبحانه ـ أمرا كان مفعولا ، أى : ثابتا في علمه وحكمته ، وهو : إعزاز الإسلام وأهله ، وخذلان الشرك وحزبه.
روى ابن جرير من حديث كعب بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : إنما خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. وروى ـ أيضا ـ عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الكرب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة قال : ونظر الناس بعضهم إلى بعض» (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٣.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١.