حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين ، وأفضل الدينين.
فالقول مجاز عن الوسوسة. والإسناد في قوله (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي. و (لَكُمُ) خبر (لا) أو صفة (غالِبَ) والخبر محذوف. أى : لا غالب كائنا لكم موجود. و (الْيَوْمَ) معمول الخبر. و (مِنَ النَّاسِ) حال من ضمير الخبر ...» (١).
وقوله : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) بيان لما فعله الشيطان وقاله بعد أن رأى ما رأى من قوة لا طاقة له بها ..
وقوله (تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أى : تقاربتا بحيث صارت كل فئة ترى الأخرى رؤية واضحة.
ومنهم من جعل (تَراءَتِ) بمعنى التقت وقوله (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أى : ولى هاربا ورجع القهقرى. وأبطل كيده وذهب ما مناهم به من النصرة والعون يقال : نكص عن الأمر نكوصا ونكصا أى : تراجع عنه وأحجم. والعقب : مؤخر القدم.
والمعنى : لقد حرض الشيطان جنوده من الكافرين على حربكم ـ أيها المؤمنون ـ ، ومناهم بالنصر عليكم ... ولكنه حينما تراءت الفئتان : فئتكم وفئته ، ورأى ما أمدكم الله به من الملائكة ، ولى مدبرا وقال للكافرين : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) أى : من عهدكم وجواركم ونصرتكم ، (إِنِّي أَرى) من الملائكة النازلة لتأييد المؤمنين مالا ترونه أنتم (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أن يعذبني قبل يوم القيامة ، أو إنى أخاف الله أن يصيبني بمكروه من قبل ملائكته.
وقوله (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يحتمل أنه من كلام إبليس الذي حكاه الله ـ تعالى ـ عنه ، ويحتمل أنه جملة مستأنفة من كلامه عزوجل.
أى : والله شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره.
هذا ، وهناك قولان في كيفية تزيين الشيطان للمشركين :
أحدهما : أن هذا التزيين لم يكن حسيا ، وإنما كان معنويا عن طريق الوسوسة دون أن يتحول الشيطان إلى صورة إنسان.
وعليه يكون قوله (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ...) مجازا عن الوسوسة. وقوله (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) استعارة لبطلان كيده ، شبه بطلان كيده بعد وسوسته بمن رجع القهقرى عما يخافه.
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٥.