التزيين كان حسيا ، ويهملان القول بغير ذلك وممن تابعهما في هذا الإمام القرطبي ، فقد ذكر بعض الروايات التي وردت في معنى الآية ، والتي صرحت بأن الشيطان قد تمثل للمشركين في صورة إنسان ، وبنى تفسيره للآية على ذلك .. (١).
وقد خالف صاحب المنار هؤلاء الأئمة ، فرجح القول الأول وهو أن التزيين لم يكن حسيا ، أى أن ما قاله الشيطان لهم من قبيل الوسوسة ، وأنه لم يتمثل لهم في صورة إنسان.
فقد قال ـ رحمهالله ـ قوله : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ...) أى : واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم لا غالب لكم اليوم من الناس.
(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أى : فلما قرب كل من الفريقين من الآخر. نكص ، أى : رجع القهقرى .. والمراد أنه كف عن تزيينه لهم ، وتغريره إياهم ، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء ، وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره ، ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم ، وتركه إياهم وشأنهم ، وهو (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) أى : تبرأ منهم وخاف عليهم ، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة.
ثم قال ـ بعد أن ضعف الروايات التي أوردها ابن جرير وابن كثير ـ والمختار عندنا في تفسير الآية أن الشيطان ألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبهم .. (٢).
والخلاصة : أننا بمراجعتنا لأقوال المفسرين في كيفية تزيين الشيطان للمشركين ، تراهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
(أ) قسم منهم ذكر القولين السابقين في كيفية التزيين دون أن يرجح أحدهما على الآخر ، وممن فعل ذلك الزمخشري ، والفخر الرازي والآلوسى.
(ب) وقسم منهم سار في تفسيره على أن التزيين كان حسيا ، بمعنى أن الشيطان تمثل للمشركين في صورة إنسان وقال لهم ما قال ، وأهمل القول بأن التزيين لم يكن حسيا ، وممن فعل ذلك ابن جرير ، وابن كثير ، والقرطبي.
(ج) وقسم منهم رجح أن التزيين لم يكن حسيا ، بل كان عن طريق الوسوسة ، وأن الشيطان ما تمثل للمشركين في صورة إنسان ، وقد سار في هذا الاتجاه صاحب المنار مشككا في صحة ما سواه.
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٦.
(٢) راجع تفسير المنار ج ١٠ ص ٣١ للشيخ رشيد رضا.