زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر : فأنت والله أحب إلى من نفسي. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «الآن يا عمر» (١).
(٤) في الآية الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا ، وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليما ، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الأتقياء .. ولذا قال الإمام الزمخشري : وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها. كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين. فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دينه ، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته ، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟ (٢).
(٥) قال بعض العلماء : وليس المطلوب. من قوله ـ تعالى ـ (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ ...) إلخ. أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة .. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة الحاكمة ، وهي المحركة الدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ، على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الحياة؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة والعشيرة والزوج .. ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن. ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق. في غير سرف ولا مخيلة.
بل إن المتاع حينئذ لمستحب ، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده. وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.
ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بلغت درجة قرابتهم ، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله .. انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٣.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥٧.