انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد .. فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار ، وثبت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وثبت معه من أصحابه قريب من مائة.
ثم أمر صلىاللهعليهوسلم عمه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة ـ أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه ـ فجعل ينادى بهم .. فجعلوا يقولون : لبيك لبيك.
وانعطف الناس فتراجعوا .. فأمرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم (١).
هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين ـ للمرة الأولى ـ جيش تعداده اثنا عشر ألفا ، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة .. أصيبوا بالهزيمة في أول معركة .. ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئا إذا لم يكن عون الله معهم.
فقوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم ؛ حتى يداوموا على طاعته ومحبته. وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت.
والمواطن : جمع موطن. وهو المكان الذي يقيم فيه الإنسان. يقال : استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله وطنا له.
والمراد بالمواطن هنا : الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم.
قال الآلوسى : وقوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز .. وأوجب الزمخشري كون (يَوْمَ) منصوبا بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة.
أى : «ونصركم يوم حنين ..» (٢).
وقوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له.
__________________
(١) تفسير ابن كثير. بتصرف وتلخيص. ج ٢ ص ٣٤٣. وراجع تفاصيل هذه الغزوة في السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ من ص ٨٠ إلى ص ١٤٣. طبعة الحلبي سنة ١٩٣٦ تحقيق مصطفى السقا وزميليه.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٥ ـ بتصرف وتلخيص :