وأما القول الثاني فهو لصاحب الكشاف : وملخصه : أن العفو هنا كناية عن الجناية ، فقد قال : قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ) كناية عن الجناية لأن العفو مرادف لها ، ومعناه. أخطأت وبئس ما فعلت ، وقوله (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كنى عنه بالعفو (١).
ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن العفو هنا كناية عن الجناية ، ووصفوا ما ذهب إليه بالخطإ وإساءة الأدب.
قال أبو السعود : ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئس ما فعلت.
هب أنه كناية ، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العقاب؟ : (٢).
وقال الشيخ أحمد بن المنير : ليس له ـ أى الزمخشري : ـ أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير ، وهو بين أحد أمرين : إما أن لا يكون هو المراد وإما أن يكون هو المراد ، ولكن قد أحل الله نبيه الكريم عن مخاطبته بصريح العتب ، وخصوصا في حق المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالزمخشرى على كلا التقديرين ذهل عما يجب في حقه صلىاللهعليهوسلم.
ولقد أحسن من قال في هذه الآية : إن من لطف الله ـ تعالى ـ بنبيه ، أن بدأه بالعفو قبل العتب ، ولو قال له ابتداء «لم أذنت لهم» لتفطر قلبه ـ عليه الصلاة والسلام. فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سيد البشر ـ عليه الصلاة والسلام (٣).
وأما القول الثالث فهو للإمام الفخرى الرازي ، ولمن حذا حذوه كالقرطبى وغيره ، وملخص هذا القول أنه يجوز أن يكون المراد بالعفو هنا : المبالغة في تعظيم النبي صلىاللهعليهوسلم وتوقيره ، أو أن قوله ـ سبحانه ـ : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) افتتاح كلام.
قال الفخر الرازي ما ملخصه : لا نسلم أن قوله ـ تعالى ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ) يوجب الذنب ، ولم لا يجوز أن يقال : إن ذلك يدل على مبالغة الله ، تعالى في تعظيمه وتوقيره ، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما عنده ، عفا الله عنك ما صنعت في أمرى .. فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التبجيل والتعظيم.
ويؤيد ذلك قول على بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :
عفا الله عنك ألا حرمة |
|
تعوذ بعفوك أن أبعدا |
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٢ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٦٦.
(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٧٢.
(٣) حاشية تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٢.