تلك الهمزة .. وهما لغتان ، يقال أرجأته وأرجيته ..» (١).
وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ..).
والمعنى : ومن المتخلفين عن الخروج معك إلى تبوك ـ يا محمد ـ قوم آخرون موقوف أمرهم إلى أن يحكم الله فيهم بحكمه العادل ، فهو ـ سبحانه ـ «إما يعذبهم» بأن يميتهم بلا توبة «وإما يتوب عليهم» أى : يقبل توبتهم.
وهذا الترديد الذي يدل عليه لفظ «إما» ، إنما هو بالنسبة للناس ، وإلا فالله ـ تعالى ـ عليم بما هو فاعله بهم.
والحكمة من إيهام أمرهم ، إثارة الهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم ؛ لأن التوبة عند ما تجيء بعد ندم شديد ، وتأديب نفسي .. تكون مرجوة القبول منه ـ سبحانه ـ.
وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ) أى : والله ـ تعالى ـ عليم بأحوال خلقه وبما يصلحهم في أمورهم ، حكيم فيما يشرعه لهم من أحكام.
قال الآلوسى : والمراد بهؤلاء «المرجون لأمر الله ..» كما جاء في الصحيحين : هلال بن أمية ، وكعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، كانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، وهموا باللحاق به فلم يتيسر لهم ذلك ـ فقعدوا في المدينة كسلا وميلا إلى الدعة ـ ولم يكن تخلفهم عن نفاق ، فلما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم وكان ما كان من أمر المتخلفين ـ قالوا : لا عذر لنا إلا الخطيئة ، ولم يعتذروا كما اعتذر غيرهم ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم باجتنابهم .. إلى أن نزل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ... (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ..) فأمر صلىاللهعليهوسلم بمخالطتهم ، وكانت مدة وقفهم خمسين ليلة بقدر مدة التخلف ، إذ كانت مدة غيبته صلىاللهعليهوسلم عن المدينة خمسين ليلة ، فلما تمتعوا بالراحة في تلك المدة مع تعب إخوانهم في السفر ، عوقبوا بهجرهم ووقفهم تلك المدة ..» (٢).
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد ذكرت ثلاث طوائف من المتخلفين عن غزوة تبوك.
أما الطائفة الأولى فهي التي مردت على النفاق ، وقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ..).
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣١٦.
(٢) تفسير الآلوسى ـ بتصرف ـ ج ١١ ص ١٧.