وذلك ضربان : مكر محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ومكر مذموم ، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في الأمرين : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١).
وقوله : «ليثبتوك» أى ليحبسوك. يقال أثبته إذا حبسته.
والمعنى : واذكر ـ يا محمد ـ وقت أن نجيتك من مكر أعدائك ، حين تآمروا عليك وأنت بين أظهرهم في مكة ، لكي (لِيُثْبِتُوكَ) أى : يحبسوك في دارك ، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن دعوتهم إلى الدين الحق (أَوْ يَقْتُلُوكَ) بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم في النسب ، حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة .. (أَوْ يُخْرِجُوكَ) أى : من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك.
وقوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) بيان لموضع النعمة والمنة ، أى : والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السيئ ، والله ـ تعالى ـ يرد مكرهم في نحورهم ، ويحبط كيدهم ، ويخيب سعيهم ، ويعاقب عليه عقابا شديدا ، ويدبر أمرك وأمر أتباعك ، ويحفظكم من شرورهم ، فهو ـ سبحانه ـ أقوى الماكرين. وأعظمهم تأثيرا ، وأعلمهم بما يضر منه وما ينفع.
قال الآلوسى : قوله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) أى : برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم ، أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين ، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر ، وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد.
(وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره ـ سبحانه ـ. وإطلاق هذا المركب الإضافى عليه ـ تعالى ـ إن كان باعتبار أن مكره ـ سبحانه ـ أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل ، لأن لمكر الغير ـ أيضا ـ نفوذا أو تأثيرا في الجملة .. وإن كان باعتبار أنه ـ سبحانه ـ لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به ، فلا شركة لمكر الغير فيه ، وتكون الإضافة حينئذ للاختصاص ، لانتفاء المشاركة ..» (٢).
هذا والصورة التي يرسمها قوله ـ تعالى ـ : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) صورة عميقة التأثير ، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون ، والله من روائهم محيط ، ويمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون.
__________________
(١) المفردات في غريب القرآن ص ٤٧١ للراغب الأصفهاني ـ بتصريف يسير.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٩٨.