__________________
الضرر حاكماً على ما يدلّ على قدرة المكلّف على ما يوجب الضرر ، مثل « الناس مسلّطون على أموالهم » ممّا يدلّ على قدرة الناس.
قلنا : القدر المسلّم هنا أنّ النهي يتوقّف على ملاحظة القدرة العقليّة ، كالنهي عن الزنى والسرقة ، فلا يصدر مثل قوله : « لا ضرر ولا ضرار » إلاّناظراً إلى القدرة العقليّة ، وأمّا القدرة الشرعيّة ، أعني أدلّة جواز بعض الأعمال شرعاً ، فلا دليل على كون النهي عن الضرر ناظراً إليها بعد إمكان صدور مثل هذا الكلام قبل صدور كلّ دليل شرعي ، ولا مانع من أن يقال : أدلّة القدرة مثل « الناس مسلّطون » مقدّمة على دليل نفي الضرر ؛ إذ كلاهما دليل شرعي.
وقال بعضهم في معني الحكومة بأنّها ما لا يتردّد الناس في تقديم أحد الدليلين على الآخر ، كالخاصّ ؛ فإنّه حاكم على العامّ ؛ إذ لا يتردّد أحد في تقديمه عليه ، وعلى هذا فلا ريب في أنّه ليس مثل « لا ضرر » حاكماً على مثل « الناس مسلّطون على أموالهم » ؛ إذ يتردّد فيه الناس ، بلى ربّما يتردّد فيه الفقهاء المحقّقون العظام ، كما قال الشيخ المحقّق المذكور في رسالته : إنّ تصرّف المالك في ملكه إذا استلزم تضرّر جاره يجوز أم لا؟ والمشهور الجواز إلى آخره ، وربَّما يقال : إنّ قوله : « لا ضرر ولا ضرار » حكمة لا يجوز لنا أن نخترع أحكاماً غير منقولة اعتماداً على النهي عن الضرر ، مثلاً لو لم يكن فسخ البيع مشروعاً في الغبن لم يكن لنا اختراع الفسخ فيه ؛ فدفع الضرر ، كما لا نقول بتجويز فسخ النكاح للمرأة إذا اقتضى استمراره ضرراً على المرأة ، أو على أحد أقربائها ، فيجب في كلّ مسألة يتمسّك فيها بنفي الضرر التماس دليل آخر ، ويجعل النفي مؤيّداً له.
ثمّ إنّ الظاهر من كلام الشيخ المحقّق الأنصاري رحمهالله أنّ الحكومة اصطلاح له في دليلين غير قطعيّين يحتاج في تقديم أحدهما على الآخر إلى مرجّح إسنادي أو دلالي ، فيكتفى بالحكومة عن الترجيح ، وأمّا مثل النهي عن الإضرار وتسلّط الناس على أموالهم وحرمة الغصب وأمثال ذلك فأحكام ضروريّة في شرع الإسلام ثابتة لا يحتاج في أمثالها إلى ترجيح إسنادي ، وهو واضح ، ولا إلى ترجيح دلالي ؛ إذ لا نشكّ في شمولها لجميع الموارد ، ولم يخصّص أحدهما بالآخر ، فكلّ إضرار مبغوض ، وكلّ غصب حرام ، وإنّما يشكّ إذا لم يمكن في مقام العمل امتثال كلا الحكمين ، فلا نعلم أنّ الشارع أراد منّا مثلاً رعاية حقّ الجار ، أو رعاية حقّ المالك ، لا لقصور في دلالة لفظه وشمولها ، بل لتعارض المصالح وعدم إمكان الجمع بينهما ، وهذا النوع من التعارض يسمّى في عرف المتأخّرين بالتزاحم ، فهو نظير قولهم : صلّ ولا تغصب ؛ لأنّ كليهما حكم ضروري ثابت في الشرع بغير تردّد ، ولا معنى لترجيح أحدهما على الآخر من جهة السند ولا من جهة الدلالة ، وإنّما يشكّ في كون الصلاة في مكان مغصوب مبغوضة أو مطلوبة لا لضعف إسنادي أو دلالي ، بل لأمرٍ آخر ، وهو اجتماعها بسوء اختيار المكلّف ، وكذلك معارضة نفي الضرر وتسلّط الناس على أملاكهم ، ثمّ إنّ الضرر الطارئ على الإنسان بسبب التزامه بحكم الشارع ليس منفيّاً في الشريعة قطعاً ، كالمستأجر الذي يوجب انتقاله بعد مدّة الإجارة عليه ضرراً عظيماً ، والمرأة التي يكون استمرار نكاحها ضرراً عظيماً ، وغير ذلك ممّا لايتناهى في