الأزمان ، ويمتهنه فيما يعود عليه نفعه كل الامتهان ، ثم زمّ نفسه عن الكبرة ، (١) واعتاض من التجبر حسن العشرة ، وقلّ افتخاره عند مناظرته ، ولم يستدع نظيره إلى مباحثته ، ولم يجار (٢) المجاري له من طبقاته ، في طريق مساواته. ولم يخرج من القول إلى ما لا يعلم ، ولا من الفعل إلى ما يستعظم ، فقد شرى لنفسه محمدة الحاضر والباد ، واجتهد في مصلحته أشد الاجتهاد ، واستحق التعظيم من جميع من ضمته أقطار البلاد ، واجتمعت له الطرائق (٣) السمحة ، وزاحت عنه المذاهب المستقبحة ، وجرى عليه اسم الخيرة ، ونظرته بالنواظر المبجّلة كل عين مبصرة ، وجاز حد الأكفاء ، واعترف له بالفضل النظراء.
ولا بد أن في كل منفوس ، (٤) آلة تطلع إليها النفوس ، ويفتقر إليها حاجة المفتقرون ، ويتشوف إليها المشوفون. فمن قصّر (٥) عن علمها ، عظم في نفسه صاحبها ، وجل في عينه بحسب ما يدلّه ، عليه عقله ، وحاول أن يكون له على أمره ظهيرا ، وارتفعت عنده درجته من أن يكون له نظيرا ، ومن اتسع بدده ، (٦) لضده ونده ، كان على قدر ذلك عظم شأنه ، وارتفاع مكانه.
وكم من جامع لمال! يجود به لينال هذا المنال ، ويستدعي من الجميع محبتهم ، وينفي به حسايفهم ، (٧) فلا يدرك من ذلك ما يريد ، ولا يؤديه إلى ما يؤمل من العوام ماله الممدود.
__________________
(١) الكبرة : تأنيث الكبر على المبالغة. اللسان.
(٢) لم يجار : يجري معه.
(٣) الطرائق : جميع طريقة. وهي السنة والحال والمذهب.
(٤) منفوس أي : مرغوب. من النفاسة.
(٥) في (ب) و (د) : قصد.
(٦) البدد جمع بدّة : وهي القطعة من المال. والمعنى : من وسع الناس بماله ... إلخ.
(٧) الحسايف جمع حسيفة : وهي النقيصة.