حنجرته ، فلا يتهنأ بطعم ، ولا يتلذذ بنوم ، فقدا لسالف معاشريه ، وتوجعا على ما فاته من قديم عهده بمؤالفيه ، حتى (١) كأن لم يفارق مصافيا ، ولم يعدم مؤاخيا ، إلا في ذلك الحين الذي هو به ، (٢) فحرقته لا تنجلي عن قلبه ، فذلك المواسي عند حلول النوازل ، الجواد بمهجته في الخطوب الجلائل ، الذي لا يلهيه عن الاحتيال فيما يحل بأخدانه ، من (٣) نوائب أزمانه ، حتى تنجلي بهمتها ، (٤) وتنكشف كربتها ، فذلك الرقيق قلبه ، المداوم على الحفيظة إربه ، (٥) فاشدد به يدك ، (٦) تقرّ عينك ، من غير أن تترك الاحتراس ، لتقلّب الأيام بالكثير من الناس.
وآخر ساه عن ذكر من تولى ، كثير السلو عند نزول القضاء ، طويل الغفلة عما يلظّ(٧) بالأخلاء والأقرباء ، دائم الجفوة والقسوة ، إذا انقضت ساعته ، انجلت غمته ، وبردت حرقته ، فذلك الذي لا يرنق (٨) صفوه كدر ، ولا يثق بوفائه بشر.
يا بني : ومن أحب أن يصلح خلقه ، وتسدد إلى الخيرات طرقه ، فليصحب الكرام ، وليقلّ ـ فيما يعود وبالا عليه ـ الكلام ، وليصن لسانه عن مفاكهة اللئام ، ونفسه عن مخالطة الكهام. (٩) وليس من مخلوق إلا وله دليل يستدل به عليه ، وسائس يشرع (١٠) بالأبصار إليه ، فصن نفسك يا بني عن موضع الرّيب ، ومهازلة الحمقاء.
واعلم يا بني : أن مخالة الرعاع والأوباش والأوغاد ، (١١) ربما آل بالطبع الحسن إلى
__________________
(١) في (ب) : الذي كان. تصحيف.
(٢) في (ب) و (د) : فيه.
(٣) سقط من (ب) و (د) : من.
(٤) البهمة : الظلمة والسواد.
(٥) إربه : عقله.
(٦) في (أ) في (د) : يديك.
(٧) يلظ : يلم وينزل.
(٨) لا يرنق : لا يكدر. أي لا يهتم بما نزل بأصحابه فيتكدر صفوه.
(٩) الكهام : البطيئون عن النصرة.
(١٠) يشرع : يفضي ويقبل.
(١١) المخالة : المصادقة. والرعاع : الأحداث الطغام ، ومن لا عقل له. والأوباش : الأخلاط. والوغد : ـ