وكدّه ، ولا الفقير ينجو من الكد فيه بجهده ، يسعى الغني فيه خوفا من العدم ، ويكد الفقير طلبا للمغنم ، فجدة الغني فيه فقر ، ومغنم الفقير منه خسر ، يخاطرون لذلك في أهوال البحور ، ويركبون لطلبه كل باب من أبواب الفجور ، فأقرب ما يكونون (١) من السرور به ، أقرب ما يكونون (٢) من الغم بسلبه.
فكم في الدنيا من غريق في لجج البحار؟! وكم فيها ولها من مبتلى بقتل أو أسار؟! وكم لطالبها ، وإفراطه في حبها ، من ميت غريب ناء عن الولد والأوطان ، بين غتم (٣) لا يعرفونه ، وطماطم (٤) من السودان ينكرونه ، لم يبكه هنالك ولده ولا قرباه ، ولم تأسف عليه كما أسف عليها دنياه ، بل تخلّوا جميعا منه ، وأعرضوا سريعا عنه ، فورثوه غير حامدين له فيما جمع ، وأسلموه إذ مات لما عمل وصنع ، ولعل قائلا منهم أن يقول : ما كان أفحش حرصه وإيعاثه ، (٥) أو قائلا منهم يقول : ما أقل أو ما أكثر تراثه ، تلعبا بذكره ، وتفكها في أمره.
فأعرضوا هذا ـ رحمكم الله ـ على قلوبكم لأن ينجلي لكم إن شاء الله ما فيها عن الدنيا من العمى ، وانظروا إلى من زالت عنه القدرة من أبناء الملوك والعظماء ، كيف صاروا إلى الضعة بعد الرفعة ، والضيق بعد مضطربهم من السعة ، بل انظروا بعد هذا كله ، إلى من كان هذا أكثر شغله ، ألم تروا غلطهم في مسالكهم ، ومرتطمهم في مهالكهم ، فاعتبروا بهم قبل أن تغرقوا في بحرهم ، وتقعوا في مهالك أمرهم ، وآثروا سبيل أحباء الله على كل سبيل ، واستدلوا بما كان لهم على سبيلهم من دليل ، فإن سبيلهم فيه ، وعونهم كان عليه ، ما خالط فكرهم ، وأحيوا به في الفكر ذكرهم ، من نعيم الآخرة الدائم المقيم ، وما أعد الله لمن حادّه من العذاب الأليم.
ففكروا ـ رحمكم الله ـ كما فكروا ، تبصروا إن شاء الله من فضل سبيلهم ما
__________________
(١) في (ب) و (د) : ما يكون. وسقط من (ب) : من.
(٢) في (ب) و (د) : ما يكون.
(٣) الأغتم : من لا يفصح شيئا ، جمعه : غتم.
(٤) الطماطم : جمع طمطم. وهو الذي في لسانه عجمة.
(٥) إيعاثه : إفساده.