قال القرطبي : والجنوح : الميل. وجنح الرجل إلى الآخر : مال إليه. ومنه قيل للأضلاع جوانح ، لأنها مالت على الحشوة ـ بضم الحاء وكسرها ـ أى : الأمعاء.
وجنحت الإبل : إذا مالت أعناقها في السير قال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه |
|
بذكراك والعيس المراسيل جنح (١) |
وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيص «للسلم» ـ بكسر السين ـ وقرأ الباقون بالفتح. وإنما قال (لَها) لأن السلم مؤنثة ـ تأنيث نقيضها وهي الحرب .. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة (٢).
والمعنى : عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تنكل في الحرب بأولئك الكافرين الناقضين لعهودهم في كل مرة ، وأن تهيئ ما استطعت من قوة لإرهابهم فإن مالوا بعد ذلك إلى السلم أى : المسالمة والمصالحة فوافقهم ومل إليها ما دامت المصلحة في هذه المسألة.
وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) معطوف على (فَاجْنَحْ لَها) لقصد التثبيت وبعث الطمأنينة في قلبه.
أى : اقبل المسالمة ما دام فيها مصلحتك ، وفوض أمرك إلى الله ـ تعالى ـ ولا تخش مكرهم وكيدهم وغدرهم ، إنه ـ سبحانه ـ (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأحوالهم ، فيجازيهم بما يستحقون ، ويرد كيدهم في نحورهم.
وعبر ـ سبحانه ـ عن جنوحهم إلى السلم بحرف (إِنْ) الذي يعبر به عن الشيء المشكوك في وقوعه ، للإشارة إلى أنهم ليسوا أهلا لاختيار المسالمة أو المصالحة لذاتها ، وإنما هم جنحوا إليها لحاجة في نفوسهم ، فعلى المؤمنين أن يكونوا دائما على حذر منهم ، وألا يأمنوا مكرهم.
هذا وقد اختلف العلماء فيمن عنى بهذه الآية. فمنهم من يرى أن المعنى بها أهل الكتاب ، ومنهم من يرى أن الآية عامة ، أى تشمل أهل الكتاب والمشركين. ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها منسوخة أولا؟
وقد حكى ابن جرير معظم هذه الخلافات ورجح أن المقصود بهذه الآية جماعة من أهل الكتاب ، وأن الآية ليست منسوخة فقال ما ملخصه :
عن قتادة أن قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ..) منسوخة بقوله في سورة براءة
__________________
(١) العيس : الإبل البيض. والمراسيل : سهلة السير وجنح : مائلة صدورها إلى الأرض.
(٢) تفسير القرطبي بتصرف يسير ج ٨ ص ٣٩.