وأسند ، سبحانه ، القول إلى الأفواه مع أنه لا يكون إلا بها ، لاستحضار الصورة الحسية الواقعية ، حتى لكأنها مسموعة مرئية ولبيان أن هذا القول لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع ، وإنما هو قول لغو ساقط وليد الخيالات والأوهام ، ولزيادة التأكيد في نسبة هذا القول إليهم ، أى : أنه قول صادر منهم وليس محكيا عنهم.
قال صاحب الكشاف ، فإن قلت : كل القول يقال بالفم فما معنى قوله (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ)؟.
قلت : فيه وجهان : أحدهما ـ أن يراد أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ من أى معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على معان. وذلك أن القول الدال على معنى ، لفظه مقول بالفم ، ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له مقول بالفم لا غير.
والثاني ـ أن يراد بالقول : المذهب ، كقولهم «قول أبى حنيفة» يريدون مذهبه وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة ، حتى يؤثر في القلوب ، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد» (١).
وقوله : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) ذم آخر لهم على تقليدهم لمن سبقوهم بدون تعقل أو تدبر.
قال الجمل ما ملخصه : قرأ العامة (يُضاهِؤُنَ) بضم الهاء بعدها واو ـ. وقرأ عاصم «يضاهئون» بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة ـ فقيل هما بمعنى واحد وهو المشابهة ، وفيه لغتان : ضاهأت وضاهيت ...» (٢).
والمراد بالذين كفروا من قبل : قيل ، أهل مكة وأمثالهم من المشركين السابقين الذين قالوا ، الملائكة بنات الله وقيل ، المراد بهم قدماء أهل الكتاب ، أى ، أن اليهود والنصارى المعاصرين للنبي صلىاللهعليهوسلم يشابه قولهم في العزير وعيسى قول آبائهم الأقدمين ، ـ أى المعاصرين للعهد النبوي ـ قد ورثوا الكفر كابرا عن كابر.
والأولى من هذين الوجهين أن يكون المراد بالذين كفروا من قبل. جميع الأمم التي ضلت وانحرفت عن الحق ، وأشركت مع الله في العبادة آلهة أخرى.
قال صاحب المنار ، وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٤.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٧٧.