والإخلاد إلى الأرض ، ولذا عدى بإلى.
أى : اثاقلتم مائلين إلى الراحة وإلى شهوات الدنيا الفانية ، وإلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكرهتم الجهاد مع أنه ذروة سنام الإسلام.
وإن التعبير بقوله ، سبحانه ، (اثَّاقَلْتُمْ) لفي أسمى درجات البلاغة ، وأعلى مراتب التصوير الصادق ، لأنه بلفظه وجرسه يمثل الجسم المسترخى الثقيل الذي استقر على الأرض .. والذي كلما حاول الرافعون أن يرفعوه عاد إليه ثقله فسقط من بين أيديهم ، وأخلد إلى الأرض.
وذلك لأن ما استولى عليه من حب للذائذ الدنيا وشهواتها ، أثقل بكثير من حبه لنعيم الآخرة وخيراتها.
وقوله ، سبحانه ، : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) إنكار آخر لتباطئهم عن الجهاد ، وتعجب من ركونهم إلى الدنيا مع أن إيمانهم يتنافى مع ذلك.
وقوله. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) بيان لحقارة متاع الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة الدائم.
والمعنى : أى شيء حال بينكم ، أيها المؤمنون ، وبين المسارعة إلى الجهاد عند ما دعاكم رسولكم صلىاللهعليهوسلم إليه. أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذائذها الناقصة.
إن كان أمركم كذلك ، فقد أخطأتم الصواب ، لأن متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل مستحقر بجانب متاع الآخرة الباقي ، ونعيمها الخالد.
قال الآلوسى ما ملخصه : «في» من قوله (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) تسمى بفي القياسية. لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به. وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ، ويستدعى الرغبة فيها ، وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها.
وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المستورد ، أخى بنى فهر ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع» (١).
وقال الفخر الرازي : اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال ، لأنه ،
__________________
(١) الآلوسى تفسير ج ١٠ ص ٨٥.