وإنما فرحوا بهذا القعود ، وكرهوا الجهاد ؛ لأنهم قوم خلت قلوبهم من الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهبطت نفوسهم عن الارتفاع إلى معالى الأمور ، وآثروا الدنيا وشهواتها الزائلة على الآخرة ونعيمها الباقي.
وفي التعبير بقوله : (الْمُخَلَّفُونَ) تحقير لهم ، وإهمال لشأنهم ، حتى لكأنهم شيء من سقط المتاع الذي يخلف ويترك ويهمل ؛ لأنه لا قيمة له ، أو لأن ضرره أكبر من نفعه.
قال الآلوسى : وإيثار ما في النظم الكريم على أن يقال ، وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إيذان بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه» (١).
وقوله : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) حكاية لأقوالهم التي تدل على ضعفهم وجبنهم ، وعلى أنهم قوم لا يصلحون للأعمال التي يصلح لها الرجال.
أى. وقال هؤلاء المنافقون المخلفون لغيرهم ، اقعدوا معنا في المدينة ، ولا تخرجوا للجهاد مع المؤمنين ، فإن الحر شديد ، والسفر طويل ، وقعودكم يريحكم من هذه المتاعب ، ويحمل غيرنا وغيركم على القعود معنا ومعكم ، وبذلك ننال بغيتنا من تثبيط همة المجاهدين عن الجهاد في سبيل الله.
وقوله : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) رد على أقولهم القبيحة ، وأفعالهم الخبيثة ، أى ، قل يا محمد لهؤلاء المنافقين على سبيل التهكم بهم ، والتحقير من شأنهم : نار جهنم أشد حرا من هذا الحر الذي تخشونه وترونه مانعا من النفير بل هي أشد حرا من نار الدنيا ...
روى الإمام مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال : «نار بنى آدم التي توقدونها. جزء من سبعين جزءا من نار جهنم .. (٢).
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : وقوله : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) استجهال لهم ، لأن من تصون مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل ، ولبعضهم :
مسرة أحقاب تلقيت بعدها |
|
مساءة يوم أريها شبه الصاب |
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة |
|
وراء تقضيها مساءة أحقاب (٣) |
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٥١.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٦ فقد ساق هنا جملة من الأحاديث في هذا المعنى.
(٣) الأحقاب : الأزمان الطويلة. والأرى : السل والصاب نبات مر.