والذي نراه أقرب إلى الصواب أن المراد بالسائحين هنا : السائرون في الأرض لمقصد شريف ، وغرض كريم. كتحصيل العلم ، والجهاد في سبيل الله ، والتدبر في ملكوته ـ سبحانه ـ والتفكر في سنته في كونه ، والاعتبار بما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب.
ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ «السائحون» معناه السائرون ، لأنه مأخوذ من السيح وهو الجري على وجه الأرض ، والذهاب فيها. وهذه المادة تشعر بالانتشار ، يقال : ساح الماء أى جرى وانتشر.
وما دام الأمر كذلك فمن الأولى حمل اللفظ على ظاهره ، مادام لم يمنع مانع من ذلك ، وهنا لا مانع من حمل اللفظ على حقيقته وظاهره.
أما الأحاديث والآثار التي استشهد بها من قال بأن المراد بالسائحين الصائمون فقد ضعفها علماء الحديث.
قال صاحب المنار : وأقول : وروى ابن جرير من حديث أبى هريرة مرفوعا وموقوفا حديث : «السائحون هم الصائمون» لا يصح رفعه .. (١).
وفضلا عن كل هذا ، فإن تفسير السائحين بأنهم السائرون في الأرض لكل مقصد شريف ، وغرض كريم .. يتناول الجهاد في سبيل ، كما يتناول الرحلة في طلب العلم ، وغير ذلك من وجوه الخير.
وما أكثر الآيات القرآنية التي حضت على السير في الأرض ، وعلى التفكر في خلق الله ، ومن ذلك قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢).
وقوله تعالى. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٣).
قال الإمام الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأن الإنسان يلقى الأكابر من الناس ، فيحتقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله. تعالى. في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين (٤).
ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا يصح للنبي صلىاللهعليهوسلم ولا للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين مهما بلغت درجة قرابتهم ، لأن رابطة العقيدة هي الوشيجة الأساسية فيما بينهم فقال ـ تعالى :
__________________
(١) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٥٤.
(٢) سورة الأنعام الآية ١١.
(٣) سورة الحج الآية ٤٦.
(٤) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٠٩.