قال الأستاذ أحمد أمين : وقد كانت نظرة المعتزلة في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة ، فطبّقوا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أبدع تطبيق وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار المجسّمة الّذين جعلوا لله تعالى جسما ، له وجه ويدان وعينان. وغاية ما قاله أعقلهم (١) : أنّه جسم لا كالأجسام وله وجه لا كالوجوه ويد لا كالأيدي. وقالوا : بأنّ له جهة هي الفوقيّة ، وأنّه يرى بالأبصار وأنّ له عرشا يستوي عليه. إلى آخر ما قالوا ممّا ينطبق على الجسميّة.
قال : فأتى المعتزلة وسموا على هذه الأنظار ، وفهموا من روح القرآن تجريد الله عن المادّيّة ، فساروا في تفسيرها تفسيرا دقيقا واسعا ، وأوّلوا ما يخالف هذا المبدأ. وسلسلوا عقائدهم تسلسلا منطقيّا ؛ فإذا كان تعالى ليس مادّة ، ولا مركّبا من
مادّة ، فليس له يدان ولا وجه ولا عينان ، لأنّ ذلك يدلّ على جزء من كلّ ، والله تعالى ليس كلّا مركّبا من أجزاء ، وإلّا كان مادّة ، وإذا كان كذلك فليست تدركه عيوننا التي خلقت وليس في قدرتها إلّا أن ترى ما هو مادّة وما هو في جهة.
قال : وعلى كلّ حال كان مسلك المعتزلة مسلكا لا بدّ منه ، لأنّه أشبه بردّ فعل لحالة بعض العقائد في زمنهم. لقد قرّروا سلطان العقل وبالغوا فيه أمام من لا يقرّ للعقل بسلطان ، بل يقول : نقف عند النصّ. وهكذا قال المعتزلة بحرّيّة الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته ، حتّى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخشبة في اليمّ.
قال : وفي رأيي أنّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم ، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحاليّ ، وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التواكل (٢).
__________________
(١) يريد بهم أصحاب البلكفة الأشعرية قالوا : إنّ الله يرى بلا كيف وله وجه بلا كيف وله يد بلا كيف. وهلمّ جرّا. حاولوا بذلك التخلّص من الشنعة عليهم بالقول بالتجسيم .. راجع : التمهيد ٣ : ٨١.
(٢) راجع : ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين المصري ٣ : ٦٨ ـ ٧٠.