قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) يبدو أنّها إشارة إلى ما أشاعته الجواسيس العشرة من مذمّة الأرض وصعوبتها وقوّة رجالها وما شابه ذلك ممّا يدلّ على وهن عزيمتهم للقيام والمقابلة وأنّهم لم يقولوا كما قال لهم موسى ولم ينتهضوا كما استنهضهم موسى ورجلان معه يوشع وكالب.
ولعلّ التعبير بكلمة «هذه» المفيدة للقرب ما يرجّح أنّ القرية هي «حبرون» الّتي تطلّع عليها جواسيسهم. والقرية : مجتمع المساكن المبنيّة العامرة ، من القري وهو الجمع ، وتطلق على البلدة الصغيرة وعلى المدينة الكبيرة ذات الأسوار والأبواب ، كما أريد هنا.
وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) مراد به باب القرية المعهودة. ومعنى السجود عند الدخول : الانحناء شكرا لله تعالى أن فضّلهم بهذه النعم .. لا لأنّ بابها قصير كما قيل ، إذ لا جدوى له .. كما لم يعهد أن يجعل للمدينة باب قصير.
قال ابن عاشور : ولعلّ الأمر بالانحناء عند الدخول ، إيهام لإظهار العجز والضعف فلا يفطن لهم أهل القرية ولا يهابونهم ، وهذا من أحوال الجوسسة ولم تتعرّض لها التوراة. قال : ويبعد أن يكون السجود المأمور به سجود الشكر ، لأنّهم داخلون متجسّسين لا فاتحين.
وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ). ولعلّ هذا القول كان معروفا ذلك العهد للدلالة على العجز ، أو هو من أقوال السّؤّال والشحّاذين كي لا يحسب لهم حساب فلا يتحذّر منهم أهل القرية.
وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي بدّل العشرة القول الذي أمر موسى بإعلانه في القوم وهو الترغيب في دخول القرية وتهوين العدوّ عليهم ، فقالوا ـ بدلا من ذلك ـ : لا تستطيعون مقابلتهم فثبّطوهم. ولذلك عوقبوا فأنزل عليهم رجز من السماء ـ أي بتقدير من السماء ـ وهو بلاء الطاعون. وقد خصّ بالمثبّطين.
وإنّما جاء بالظاهر في موضع المضمر في قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) ولم يقل : «عليهم» لئلّا يتوهّم أنّ الرجز عمّ الجميع. وبذلك تنطبق الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق (١).
__________________
(١) جاء في سفر الأعداد : ١٤ / ٣٦ و ٣٧ و ٣٨ : «أمّا الرجال الاثنا عشر الّذين أرسلهم موسى للتجسّس فرجعوا وثبّطوا القوم فأخذهم الله بالوباء ، سوى يشوع بن نون وكالب بن يفنّة فعاشا. وكان لهما التوفيق بدخول المدينة بعد أربعين عاما.