مع ذلك لكلّ عين من تلك العيون الاثنتي عشرة موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه ؛ فلذلك خصّ جلّ ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم أنّ كلّ أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس ، إذ كان غيرهم في الماء الذي لا يملكه أحد شركاء في منابعه ومسايله ، وكان كلّ سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر دون سائر منابعه خاصّ لهم دون سائر الأسباط غيرهم ، فلذلك خصّوا بالخبر عنهم أنّ كلّ أناس منهم قد علموا مشربهم (١).
***
وقال في تأويل قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) :
وهذا أيضا ممّا استغني بذكر ما هو ظاهر منه عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أنّ تأويل الكلام : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، قد علم كلّ أناس مشربهم ، فقيل لهم : كلوا واشربوا من رزق الله ، أخبر الله جلّ ثناؤه أنّه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المنّ والسلوى ، وبشرب ما فجّر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور (٢) الذي لا قرار له في الأرض ، ولا سبيل إليه إلّا لمالكيه ، يتدفّق بعيون الماء ويزخر بينابيع العذب الفرات بقدرة ذي الجلال والإكرام.
ثمّ تقدم جلّ ذكره إليهم (٣) مع إباحتهم ما أباح وإنعامه بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء ، بالنهي عن السعي في الأرض فسادا ، والعثا فيها استكبارا ، فقال جلّ ثناؤه لهم : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
ويعني بقوله : (وَلا تَعْثَوْا) لا تطغوا ، ولا تسعوا في الأرض مفسدين. كما :
[٢ / ٢١٧٤] رواه الربيع ، عن أبي العالية : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يقول : لا تسعوا في الأرض فسادا.
[٢ / ٢١٧٥] وروى ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). لا تعث : لا تطغ.
[٢ / ٢١٧٦] وروى سعيد ، عن قتادة : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : أي لا تسيروا في الأرض مفسدين.
__________________
(١) الطبري ١ : ٤٣٧ ـ ٤٣٩.
(٢) المتعاور : الذي ينقل من يد إلى يد بالتبادل.
(٣) تقدّم إليهم : أمرهم.