الخطاب والمواجهة :
فقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة : لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ؛ ثمّ جعل كلّ فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه ، ولم يكن هناك شاهد ؛ فأراد الله أن يظهر الحقّ على لسان القتيل ذاته ؛ وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه ، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح وهكذا كان ، فعادت إليه الحياة ليخبر عن قاتله وليجلوا الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله.
وفي هذا دلالة أيضا على قدرة الله على إحياء الموتى (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
والقصّة كما سردها القرآن ، أيضا فيها بعض اللبس : هل القتيل كان تعود إليه الحياة ليعيش حتّى يتوفّاه الموت ، أم كانت إعادة حياة مؤقّته للإفشاء بالقاتل فحسب؟! (١)
وهل كانت تلك سنّة باقية فيهم فيما إذا تدورىء في قتيل لم يعرف قاتله ، نظير إقامة القسامة في شريعة الإسلام لمن لم يعرف قاتله؟ أم كانت قضيّة في واقعة؟
والظاهر أنّها شرّعت سنّة فيجتمع أطراف التهمة على القتيل ، بعد أن تقدّم ذبيحة ، فيتحالفوا وتبرأ ذممهم ، أو يعترف القاتل حيث قوبل بمشهد القتيل وبمحضر الإله حيث القربان؟!
ولعلّ الأمر في بدئه اقترن بإحياء القتيل ـ عبرة وآية ـ فيفشي عن قاتله وبذلك يتحقّق سبب التهمة الموجبة لإقامة القسامة ، إذ نفس إفشاء القتيل ، سواء قبل موته أم بعده ، لا يوجب سوى الاتّهام اللهم إلّا أن يقال : إنّ الإحياء بعد الموت كانت آية إلهيّة ولا مجال للريب فيما ثبت بإعجاز الأمر الذي اختلف فيه أنظار الفقهاء إذ غاية ما في الباب أنّه يوجب العلم لمن شهد المنظر ومنهم القاضي وأثباته ، وهل مثل هذا العلم يكفي للحكم في القضاء؟!
نعم إلّا أن يعترف القاتل حيث وجد نفسه تجاه أمر واقع ، وحفزه وجدانه على الإقرار والاعتراف!
__________________
(١) جاء في رواية ابن سيرين عن أبي عبيدة السلماني : أنّه تكلّم فقال : قتلني فلان ثمّ عاد ميّتا. (التبيان ١ : ٣٠٤).