إسرائيل كان برّا بوالدته ، وكان يقوم ثلث الليل يصلّي ، ويجلس عند رأس والدته ثلث الليل ، فيذكّرها بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد ، ويقول : يا أمّه إن كنت ضعفت عن قيام الليل فكبّري الله وسبّحيه وهلّليه ، فكان ذلك عملهما الدهر كلّه ، فإذا أصبح أتى الجبل فاحتطب على ظهره فيأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله أن يبيعه ، فيتصدّق بثلثه ويبقي لعبادته ثلثا ويعطي الثلث أمّه ، وكانت أمّه تأكل النصف وتتصدّق بالنصف ، وكان ذلك عملهما الدهر كلّه.
فلمّا طال عليها قالت : يا بنيّ اعلم إنّي قد ورثت من أبيك بقرة وختمت عنقها ، وتركتها في البقر على اسم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، قالت وسأبيّن لك ما لونها وهيئتها ، فإذا أتيت البقر فادعها باسم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فإنّها تفعل كما وعدتني ، وقالت : إنّ علامتها ليست بهرمة ولا فتية ، غير أنّها بينهما وهي صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين ، إذا نظرت إلى جلدها يخيّل اليك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وليست بالذلول ، ولا صعبة تثير الأرض ، ولا تسقي الحرث ، مسلّمة لا شية فيها ولونها واحد ، فإذا رأيتها فخذ بعنقها فإنّها تتبعك بإذن إله إسرائيل.
فانطلق الفتى وحفظ وصيّة والدته ، وسار في البرّيّة يومين أو ثلاثا ، حتّى إذا كان صبيحة ذلك اليوم انصرف فصاح بها فقال : بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إلّا ما أتيتني ، فأقبلت البقرة إليه وتركت الرعي ، فقامت بين يدي الفتى ، فأخذ بعنقها فتكلّمت البقرة وقالت : يا أيّها الفتى البرّ بوالدته اركبني فإنّه أهون عليك. قال الفتى : لم تأمرني والدتي أن أركب عليك ولكنّها أمرتني أن أسوقك سوقا فأحبّ أن أبلغ قولها. فقالت : بإله إسرائيل لو ركبتني ما كنت لتقدر عليّ ، فانطلق يا أيّها الفتى البرّ بوالدته ، لو أنّك أمرت هذا الجبل أن ينقلع لك من أصله لا نقلع لبرّك بوالدتك ولطاعتك إلهك (١).
فانطلق حتّى إذا كان من مسيرة يوم من منزله استقبله عدوّ الله إبليس ، فتمثّل له على صورة راع من رعاة البقر ، فقال : يا أيّها الفتى من أين جئت بهذه البقرة ، ألا تركبها فإنّي أراك قد أعييت؟ أظنّك لا تملك من الدنيا مالا غير هذه البقرة ، فإنّي أعطيك الأجر ينفعك ولا يضرّها ، فإنّي رجل من رعاة
__________________
(١) العظمة ٥ : ١٧٦٥ / ١٢٦٤ ـ ٩٠.