حكمته وآياته ونبوّته ـ على من يشاء من عباده ـ يعني به محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بغيا وحسدا لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، من أجل (١) أنّه كان من ولد إسماعيل ، ولم يكن من بني إسرائيل!
فإن قال قائل : وكيف ابتاعت اليهود أنفسها بالكفر فقيل : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ؟) وهل يشترى بالكفر شيء؟ قيل : إنّ معنى الشراء والبيع عند العرب : هو إزالة مالك ملكه إلى غيره بعوض يعتاضه منه ، ثمّ تستعمل العرب ذلك في كلّ معتاض من عمله عوضا شرّا أو خيرا ، فتقول : نعم ما باع به فلان نفسه ، وبئس ما باع به فلان نفسه ، بمعنى : نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرّا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) لمّا أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فأهلكوها ، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم فقال : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يعني بذلك : بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم ، وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بالله في تكذيبهم محمّدا ، إذ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعدّ لهم ـ لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه ـ بالنار ، وما أعدّ لهم بكفرهم بذلك.
وهذه الآية وما أخبر الله فيها من حسد اليهود محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم وقومه من العرب ، من أجل أنّ الله جعل النبوّة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل ، حتّى دعاهم ذلك إلى الكفر به مع علمهم بصدقه ، وأنّه نبيّ الله مبعوث ورسول مرسل ؛ نظيرة (٢) الآية الأخرى في سورة النساء ، وذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)(٣). (٤)
***
وقال الفرّاء في قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ...) : معناه ـ والله أعلم ـ : باعوا به أنفسهم. وللعرب في شروا واشتروا مذهبان ، فالأكثر منهما أن يكون شروا : باعوا ، واشتروا : ابتاعوا. وربما
__________________
(١) تعليل للحسد ، أي إنّهم حسدوا محمّدا من أجل أنّه كان من العرب ..
(٢) قوله : «نظيرة» خبر قوله قبل أسطر : «وهذه الآية».
(٣) النساء ٤ : ٥١ ـ ٥٤.
(٤) الطبري ١ : ٥٨١ ـ ٥٨٥.