وأيضا لم يأت الأنبياء ليعلّموا الناس الدسائس والتمويهات ولم يعهد منهم ذلك. فكذلك الملائكة أو من كان على شاكلتهم من ذوي النفوس القدسيّة! (١)
وممّا يبعّد أن يكون هاروت وماروت ملكين ـ بالمعنى الحقيقى ـ أنّ المقابلة والمواجهة مع الملك مستحيل مادام على صورته الذاتيّة ، لأنّه من سنخ لطيف يغاير سنخ البشر الكثيف ، الأمر الذي يجعل رؤيته والمفاوضة معه شفاها ممتنعا على البشر ، اللهم إلّا أن يتمثّل الملك بشرا كما تمثّل جبرائيل لمريم بشرا سويّا. (٢)
انظر إلى قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) مقترح غريب : أن ينزل ملك فيشاهدوه ويتساءلوه في حين أنّه مستحيل ومن ثمّ جاء الردّ عليهم بقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)(٣). أي لو جعل الرسول ملكا لجعل الملك متمثّلا في صورة البشر ، ليمكّنهم رؤيته وسماع كلامه ، ولو جعله ملكا في صورة البشر لوهموه بشرا بذاته ، إذ لا يدركون منه سوى صورته وهندامه البشريّ ، فيعود المحذور : بم يعرفون أنّه ملك؟!
إنّ البشر في حالتهم العاديّة غير مستعدّين لرؤية الملائكة والجنّ على حالتهم الأصليّة ، (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)(٤) وذلك لأنّ أبصار البشر لا تدرك كلّ الموجودات ، بل إنّما تدرك ما هو من سنخها فتدرك في عالمها هذا بعض الأجسام كالماء وما هو أكثف منه من الأجرام الملوّنة ، دون ما هو ألطف منه كالهواء وما هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألّف منها الماء والهواء والملك والجنّ من عالم آخر غيبيّ ألطف ممّا ذكر. (٥)
***
وهكذا قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً. قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(٦).
أي لو وجد في الأرض ملائكة يمكن الاجتماع بهم ، لنزّلنا من السماء رسلا من الملائكة
__________________
(١) التفسير الكبير ٣ : ٢١٧.
(٢) فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (مريم ١٩ : ١٧).
(٣) الأنعام ٦ : ٨ ـ ٩.
(٤) الأعراف ٧ : ٢٧.
(٥) راجع : تفسير المنار ٧ : ٣١٦.
(٦) الإسراء ١٧ : ٩٤ ـ ٩٥.