قلت : وفي القرآن كثير من تعابير جاءت تعبيرا عن معتقد أو مزعومة ، حكاية لها لا تسالما لها كما في قوله تعالى ـ بشأن مدّة لبث أصحاب الكهف ـ : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)(١). فإنّ هذا التعبير عطف على قوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ...). وهي قولهم بشأن المدّة ، كقولتهم بشأن العدد ، حدس محض ومن ثمّ جاء ردّهم في كلا الموضعين : قل : الله أعلم. وكذا قوله : (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ)(٢). وهكذا ذكر ابن عبّاس وتلامذته. إذن فظاهر التعبير قد يوهم أنّه من كلامه تعالى ، في حين أنّه قول الآخرين. (٣)
وعليه فقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على قوله : (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) أي كما أنّ اليهود اتّبعوا ـ في زعمهم ـ ما كانت تنفثه الشياطين من دسائس الشرّ على عهد سليمان كذلك اتّبعوا ـ في زعمهم ـ ما ألهم (٤) الرجلان الصالحان ، المنعوتان بنعوت الروحانيّين ، ملائكة الله المقرّبين.
فالتعبير بالملكين حكاية عمّا كانت جمهرة الناس تعبّر به ، ولو تعبيرا مجازيّا ، لموضع حسن ظنّهم بهما.
وقد استغل اليهود هذا النعت الجليل ، فراحوا ينسبون تزاويرهم وأسالبيهم الماكرة إلى عهد سليمان أوّلا ، بزعم أنّه كان عالما بها ورائجا ذلك العهد من غير نكير. وثانيا ، إلى رجلين صالحين عرفا بسمت الملائكة الروحانيّين في الجلال والوقار. وذلك تبريرا لموقفهم هذا السّيء البذيء.
ومن ثمّ جاء ردّهم بأنّه افتراء على سليمان ، كما هو افتراء على هاروت وماروت. إذ كانا من العلماء الصالحين ، وكان تعليمهما للعلوم الدائرة والغريبة ، مشفوعا بالتذكّر والإرشاد إلى استعمال العلوم في سبيل الأهداف الصالحة دون الأهداف الضالّة الموجبة للكفر والعصيان.
ولأبي مسلم الأصفهاني هنا كلام بديع ، ينفي أن يكون النازل على الملكين السحر. نظرا لأنّ السحر في أصله تمويه وتشويه ، وانحراف عن جادة الحقّ. فلا يناسب أن يكون نازلا من عنده تعالى أو ممّا ألهمه الله على عباده الصلحاء!
__________________
(١) الكهف ١٨ : ٢٥.
(٢) الكهف ١٨ : ١٩.
(٣) راجع التفصيل في كتابنا «التمهيد» ٧ : ٤٩٦.
(٤) هكذا جاء في تعبير العلّامة الطباطبائي : «واتّبعت اليهود ما أنزل بالإخطار والإلهام على الملكين.» (الميزان ١ : ٢٣٨).