قال أبو جعفر الطبري : والصواب من القول في نهي الله المؤمنين أن يقولوا «راعنا» إنّها كلمة كرهها الله أن يخاطب بها النبيّ نظير ما روي عنه أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى أن يقال للعنب : الكرم ، بل يقال : الحبلة ونهى أن يقال : عبدي ، بل يقال : فتاي وما أشبه ذلك من لفظتين بمعنى واحد ، إحداهما مستحسنة والأخرى مستكرهة ، فينبغي اختيار المستحسن على المستكره.
وهكذا لفظة «راعنا» تحتمل معنى : احفظنا وارقبنا ومعنى : أرعنا سمعك. من قولهم : أرعيت سمعى إرعاء ، وراعيته سمعي مراعاة ، بمعنى : فرّغته لسماع كلامه ، كما قال الأعشى :
يرعى إلى قول سادات الرجال إذا |
|
أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا |
يعني بقوله يرعي : يصغي بسمعه إليه ، مفرّغة لذلك.
وكان الله قد أمر المؤمنين بتوقير النبيّ وتعظيمه ، حتّى نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذّرهم عن حبط أعمالهم على ذلك فتقدّم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا من القول ما فيه جفاء ، وأمرهم أن يختاروا لخطابه من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقّها فكان من ذلك قولهم : راعنا ، لما فيه من احتمال معنى : ارعنا نرعاك ؛ إذ كانت المفاعلة من الطرفين ، كما يقول القائل : عاطنا وحادثنا وجالسنا ، بمعنى : افعل بنا نفعل بك. والاحتمال الآخر : معنى : أرعنا سمعك حتّى نفهمك ، وتفهم عنّا فنهى الله أصحاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقولوا ذلك كذلك ، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم ليعقلوا عنه ، وهذا تبجيل منهم له وتعظيم ، فلا يسألوه على وجه الجفاء والتجهّم منهم له (١) ولا بالغظاظة والغلظة كما تفعله اليهود في خطابهم مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بقولهم : اسمع غير مسمع وراعنا ـ ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين.
قال : وأمّا الذي حكي عن مجاهد في قوله : راعنا ، أنّه بمعنى : خلافا (٢) ، فممّا لا يعقل في كلام العرب ، لأنّ «راعيت» في كلام العرب على أحد وجهين : فاعلت من الرعية وهي الرقبة والكلاءة. والآخر ، بمعنى إفراغ السمع بمعنى : أرعيته سمعي وأمّا راعيت بمعنى خالفت ، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب. إلّا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين «راعنا» على معنى الرعونة والجهل والخطا ، كما ذكره
__________________
(١) يقال : تجهّم له أي قابله بوجه عبوس كريه.
(٢) تقدّم الحديث عنه.