والسياسة دائماً شائكة ، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم ، وامتحنوا النّاس وأكرهوهم على الاعتزال ، فكرههم العامّة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الّذي وقف في وجههم ، فلمّا جاء المتوكّل انتصر للرأي العام ضدّهم ، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دوآد وأمثالهما ، ونكّل بهم تنكيلاً شديداً ، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنّه معتزلي ، كان الرجل يعتزل ويختفي حتّى عدّ جريئاً كلّ الجراءة الزمخشري الّذي كان يتظاهر بالاعتزال ويؤلّف فيه ، ولم يكن له كلّ هذا الفضل ، لأنّه أتى بعد هدوء الفورة الّتي حدثت ضدّ الاعتزال.
فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ والتجربة وإليقين بعدهما كان يكون قد ربى وترعرع ونضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه ، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم وطنطنتهم بالشكّ والتجربة الّتي ينسبانها إلى « بيكن » مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشكّ وهذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع وبدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت ، كان يتقدم مئات من السنين ، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم ، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين ، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق ويقتصر على الغرب.
فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع ، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة ، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون.
فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض.
ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل ، وشتّان ما بينهما ، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم ، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به