فالأوّل تحصيل للحاصل ، وأمّا الثاني ، فهو باطل ، لاستحالة خطاب الغافل ، إذ كيف يصحّ الأمر بالغافل المطلق بأنّ الله قد أمره بالنّظر والمعرفة ، وأنّ امتثال أمره واجب إلاّ إذا خصّ الوجوب بالشّاك.
هذا ما عليه الأشاعرة ، وأمّا الماتريديّة فتقول بوجوبها عقلاً مثل المعتزلة. قال البياضي : « ويجب بمجرّد العقل في مدة الاستدلال ، معرفة وجوده ، ووحدته ، وعلمه ، وقدرته ، وكلامه ، وإرادته ، وحدوث العالم ، ودلالة المعجزة على صدق الرّسول ، ويجب تصديقه ، ويحرم الكفر ، والتّكذيب به ، لا من البعثة وبلوغ الدعوة » (١).
القول بوجوب هذه الاُمور من جانب العقل من قبل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور يعرب عن كون الداعي ، أعطى للعقل سلطاناً أكبر مما أعطاه الأشعري له.
إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين دوراً مؤثّراً في المسائل الكلامية ، فالأشاعرة على إنكارهما زاعمين أنّ القول باستطاعة العقل على دركهما ، يستلزم نفي حرّية المشيئة الإلهيّة والتزامها بقيد وشرط ، وقد أوضحنا حال هذه النّظرية عند عرض عقائد الأشاعرة (٢). وأمّا المعتزلة فهم على جانب مخالف ، وأمّا الماتريديّة فيعترفون بالتحسين والتقبيح ببعض مراتبهما.
قال البياضي : والحسن بمعنى استحقاق المدح والثّواب ، والقبح بمعنى استحقاق الذمّ والعقاب على التكذيب عنده ( أبي منصور الماتريدي ) إجمالاً عقلي ، أي يعلم به حكم الصانع في مدّة الاستدلال في هذه العشرة (٣). كما في التوضيح وغيره ، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح ، ولا مطلقاً كما زعمته المعتزلة ، أمّا كيفيّة الثّواب وكونه
__________________
١ ـ اشارات المرام : فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية ص ٥٣.
٢ ـ لاحظ الجزء الثاني : ص ٣١٠ ـ ٣٣٢.
٣ ـ اشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلاً.