وبهذا البيان يستغني الإنسان عن كثير من الأدلّة الّتي أقامها القائلون بالحسن والقبح ، سواء أكانت صحيحة أم لا. نظير ما ربّ ـ ما يقال من أنّ أحدنا لو خيّر بين الصّدق والكذب وكان النّفع في أحدهما كالنّفع في الآخر وقيل له : إن كذبت أعطيناك درهماً وإن صدقت أعطيناك درهماً ، فإنّه قطُّ لا يختار الكذب على الصدق. ليس ذلك إلاّ لعلمه بقبحه وبغناه عنه (١).
يلاحظ عليه : أنّ اختيار الصِّدق على الكذب يمكن أن يكون مستنداً إلى أمر آخر ، وهو كون الصِّدق مطابقاً للفطرة والكذب على خلافها. ولأجل ذلك لا يختار الصبي إلاّ الصِّدق وليس ذلك لأجل العلم بقبح الكذب. هذا كلّه حول الأمر الأوّل.
وأمّا الأمر الثاني : أعني كونه سبحانه عالماً بحسن الأشياء وقبحها ، فقد استدلّ عليه القاضي بأنّه تعالى عالم لذاته ، ومن حقِّ العالم لذاته ـ أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه الّتي يصح أن تعلم عليها. ومن الوجوه الّتي يصحّ أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح ، فيجب أن يكون القديم تعالى عالماً به (٢).
يلاحظ عليه : أنّ كلامه مجمل ولعلّه يريد أنّ ذاته سبحانه علّة الأشياء وعلّة لصفاتها ، والعلم بالعلّة ، علم بالمعاليل. فهو سبحانه بما أنّه عالم لذاته ، عالم بمعاليله من الذوات والصفات.
ولكن التقرير عليل من وجهين :
الأوّل : إنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال لا من صفات الأشياء الخارجية من الجواهر والاعراض القائمة بها ، وأفعال الإنسان ليست مخلوقة له سبحانه عند المعتزلة فلا تكون معلولة لذاته حتّى يلزم من العلم بالذات ، العلم بها.
الثاني : إنّ الحسن والقبح ، بمعنى يجب أَنْ يفعل أو لا يفعل ، من الأحكام العقلية وليست من الصفات الخارجية للأفعال والأشياء ، حتّى يكونا مخلوقين له سبحانه ،
__________________
١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٣٠٣.
٢ ـ المصدر السابق : ص ٣٠٢.