العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانيّة ، المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضيّة التّحسين والتّقبيح في قسم من الأفعال ، قضيّة كلّية لا تختصّ بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل. بل لا تختصّ ـ في كونها كمالاً أو نقصاً ـ بالإنسان بل تعمّ الموجود الحيّ المدرك المختار ، لأنّ العقل يدركها بصورة قضيّة عامّة شاملة لكلّ من يمكن أن يتّصف بهذه الأفعال كالعدل والظلم ، فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عند الجميع ومن الجميع ، والثاني قبيح كذلك ، وليس للانسان خصوصيّة في ذلك القضاء.
وبذلك يصبح المدّعي للتّحسين والتّقبيح العقليّين الذاتيّين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه ، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك.
والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النّظريّة في العقل النظري إلى قضايا بديهيّة ، وإلاّ عقمت الأقيسة ولزم التّسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسّموا القضايا العمليّة إلى فكرية وبديهيّة ، أو نظريّة وضروريّة. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل لا يتمّ إلاّ إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.
فالمسائل المطروحة في الأخلاق ممّا يجب الاتّصاف به أو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتيّة والعائليّة الّتي يعبّر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب.
فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العمليّة إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العمليّة حتّى يحصل الجزم بها ويرتفع الابهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتّحسين والتّقبيح العقليّين في غنى عن التوسّع في طرح أدلّة القائلين بهما.