توضيحه إنّ في الحكمة النّظريّة قضايا نظريّة تنتهي إلى قضايا بديهيّة ، ولولا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة ، ومثلها الحكمة العمليّة ، ففيها قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضروريّة ، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العمليّة. فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهيّة في الحكمة النظريّة من صميم ذاتها ، فهكذا يدرك بديهيّات القضايا في الحكمة العمليّة من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.
مثلاً ، إنّ كلّ القضايا النظريّة يجب أن تنتهي إلى قضيّة امتناع اجتماع النّقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التّصديق بهما لما أمكن التّصديق بشيء من القضايا ولذا تسمّى ب ـ « أمّ القضايا » فلا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلّث مثلاً تساوي قائمتين ، إلاّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضيّة ، أي عدم مساواتها لهما. وإلاّ فلو احتمل صدق النّقيض لما حصل اليقين بالنّسبة ، ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النّظريّة إنّما تتمّ إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا الّتي قد عرفت.
وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما أنّ للقضايا النّظرية في العقل النّظري قضايا بديهيّة أو قضايا أوّليّة تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّليّة وواضحة عند ذلك العقل ، بحيث لو ارتفع التّصديق بهذه القضايا في الحكمة العمليّة لما صحّ التّصديق بقضيّة من القضايا فيها.
فمن تلك القضايا البديهيّة في العقل العملي مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين الثابتين لجملة من القضايا مثل قولنا : « العدل حسن » و « الظّلم قبيح » و « جزاء الإحسان بالإحسان حسن » و « جزاء الإحسان بالإساءة قبيح ». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العمليّة ، والعقل العملي يدركها من ملاحظة القضيّة بنفسها وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً ، وتدبير المنزل ثانياً ، وسياسة المدن ثالثاً ، الّتي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال