أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. فقد فعل ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.
رسالة ثالثة للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم
ثمّ إنّ المأمون كتب بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم رسالة مفصّلة وممّا جاء فيه :
« وممّا بيّنه أمير المؤمنين برويّته وطالعه بفكره ، فتبيّن عظيم خطره وجليل ما يرجع في الدّين من وكفه وضرره ، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الّذي جعله الله إماماً لهم. وأثراً من رسول الله وصفيّه محمّد صلىاللهعليهوآله باقياً لهم واشتباهه على كثير منهم حتّى حسن عندهم وتزيّن في عقولهم أن لا يكون مخلوقاً ، فتعرّضوا لذلك لدفع خلق الله الّذي بان به عن خلقه ، وتفرّد بجلالته من ابتداع الأشياء كلّها بحكمته ، وأنشأها بقدرته ، والتقدّم عليها بأوّليّته الّتي لا يبلغ أولاها ولا يدرك مداها ، وكان كلّ شيء دونه خلقاً من خلقه وحدثاً هو المحدِث له ، وإن كان القرآن ناطقاً به ودالاً عليه وقاطعاً للاختلاف فيه وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله.
والله عزّوجلّ يقول : ( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً ) وتأويل ذلك أنّا خلقناه كما قال جلّ جلاله : ( وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسكنَ إليها ) وقال : ( وجَعَلْنا اللّيلَ لباساً وجَعَلْنا النّهارَ معاشاً ) و( جَعَلْنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيّ ) فسوّى عزّ وجلّ بين القرآن وبين هذه الخلائق الّتي ذكرها في شية الصّنعة وأخبر أنّه جاعله وحده فقال : ( إنّه لقرآنٌ مجيدٌ* في لوح محفوظ ) فقال ذلك على إحاطة اللّوح بالقرآن ولا يحاط إلاّ بمخلوق ، وقال لنبيّه : ( لا تُحرِّك بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) وقال : ( مَا يَأتِيهم مِن ذِكْر مِن َربِّهِم مُحْدَث ) وقال : ( ومَن أَظْلَمُ ممّنِ افترى على اللّهِ كذباً أو كذَّب بآياتِه ) وأخبر عن قوم ذمّهم بكذبهم أنّهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ، ثمّ أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله : ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكتابَ الّذي جاءَ بهِ موسى ) فسمّى الله تعالى القرآن قرآناً