وبنحو ذلك صرح جملة ممن تأخر عنه منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال : مقتضى كونه عقدا تركيبه من الإيجاب والقبول بالقولين ، ومقتضى جوازه عدم انحصاره في عبارة ، بل يكفى كل لفظ دل عليه ، ولا يعتبر فيه التصريح ، بل يكفى التلويح والإشارة المفهمة لمعناه اختيارا ، ثم قال بعد قول المصنف (رحمة الله عليه) : ويكفى الفعل الدال على القبول ، أطلق المصنف وجماعة أنه يكفى القبول الفعلي مع اعترافهم بكونه عقدا نظرا الى أن الغاية منه انما هو الرضا بالاستنابة ، وربما كان الفعل فيه أقوى من القبول ، باعتبار التزامه ودخوله في ضمانه لو قصر ، بخلاف القبول القولي ، فإنه وان لزمه ذلك شرعا الا أنه ليس صريحا في الالتزام من حيث أنه عقد جائز ، فإذا فسخه ولم يكن قبضه لم يظهر أثره واليد توجب الحفظ الى أن يرده الى مالكه ، لعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (١). وهذا حسن ، الا أن فيه بعض الخروج عن حقيقة العقد ، ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى أنها اذن مجرد ، لا عقد ، وفرع عليه عدم اعتبار القبول القولي ، وآخرون الى أن الإيجاب ان كان بلفظ أو دعتك وشبهه مما هو على صيغ العقود وجب القبول لفظا ، وان قال احفظه ونحوه لم يفتقر الى القبول اللفظي ، كالوكالة ، وهو كلام موجه.
أقول : لا يخفى أن ما طولوا به الكلام في هذا المقام من أنه لا بد من عقد يشتمل على الإيجاب والقبول والخلاف في القبول بكونه قوليا أو فعليا ، وكذا الخلاف بكونه عقدا أو إذنا كله تطويل بغير طائل ، إذ لا يظهر له عند التأمل والتحقيق ثمرة ولا حاصل ، والأمر في ذلك معروف بين جملة الناس من عالم وجاهل ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في أن من قصد غيره بمال ليودعه عنده ، وجرى بينهما من الكلام ما يدل على الرضا بذلك ، من الطرفين بحيث لا يتوهم كونه هدية ولا عطية ولا بيعا ، ولا نحو ذلك ترتب عليه أحكام الوديعة شرعا ، سواء
__________________
(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.