يؤتى إليه مثله ، سكن غليله ، (١) وصفت له عيشته ، وطالت سلوته ، وكثرت راحته ، ورسخت في القلوب محبته ، ونقيت من صدره ضغينته ، وأشرقت بالفضل صفحته ، وعادت له من صنوه مودته ، وتأكدت في رقبته منته. ولعله إن طال تمعزه ، (٢) أن يكثر عما يروم به عجزه ، فيريه (٣) الغيظ والحرد ، ويغلغله (٤) الحزن والكمد.
تم نصف كتاب المكنون والحمد لله رب العالمين.
ألا وإن أحمد الناس مذاهب ، وأكملهم ضرائب ، (٥) وأحسنهم فعلا ، وأرسخهم في اللب أصلا ، من تجافى عن هفوات إخوانه ، ووادع (٦) أيام زمانه ، وصاحب بالمسالمة خدينه ، (٧) وبالمناصفة قرينه ، ورضي من دهره بالموجود في غيره ، وساير الناس كلا على ما طبع عليه في عصره ، فإن أعظم النوائب ، وأقبح النواكب ، أن يسكن قلبك البغضة لمن كنت له وامقا ، (٨) وتقل ثقتك بمن كنت به واثقا ، وتستوحش ممن كان لك نصيحا ، وكنت إليه حين تحزبك (٩) الأمور مستريحا.
واعلم يا بني : أن الحقد والحسد والغضب إذا اعتلجت في قلب أوقدته ، وأعمدته(١٠) وأقلقته ، فربما تهيّج من ذلك الداء المستكن (١١) فاستوحش له البدن ، وأظهر من غوامض الأوجاع ما بطن ، فتغيرت لذلك الطبيعة ، واستدعيت القطيعة.
__________________
(١) في (ب) : عليه. وهو تصحيف. والغليل الحقد.
(٢) تمعزه : بخله.
(٣) في (ب) و (د) : فيريه به. ولعلها فيبريه الغيظ والحرد ، يعني يسقمه وينحله حتى يكون كالسهم المبري.
(٤) الحرد : الغيظ والغضب. ويغلغله : يدخل فيه أو يدخله في.
(٥) الضرائب : جمع ضريبة وهي : الخليقة والطبيعة.
(٦) وادع : هادن وصالح.
(٧) الخدين : الصديق.
(٨) الوامق : المحب.
(٩) حزبه الأمر : نزل به.
(١٠) أعمدته : أحزنته.
(١١) المستكن : الكامن الساكن.