بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وبه أستعين
أما بعد : فإن الدنيا دار غرور ، لا يدوم فيها سرور ، ولا يؤمن فيها محذور ، جديدها يبلى ، وخيرها يفنى ، من وثق بها خدعته ، ومن اطمأن إليها صرعته ، ومن أكرمها أهانته ، أفراحها تعقب أحزانا ، ولذاتها تورث أشجانا.
أما بعد : فإن أعمار الدنيا قصيرة ، ورحاها مديرة ، وسهامها قاصدة ، وحتوفها راصدة ، والمغرور من اغتر بها ، والمخدوع من ركن إليها ، من زهد فيها كفيها ، ومن رغب عنها وطيها ، قد غرت القرون الماضية ، وهي على الباقين آتية ، فيا بؤسا للباقين ، لا يعتبرون بالماضين ، يجمعون للوارثين ، ويقيمون في محلة المتجبرين.
أما بعد : فاقنع باليسير ، وبادر بالتشمير ، وإياك والتغرير ، وانظر إلى ما تصير ، فليس الأمر بصغير ، وهيئ زادك للمسير ، فقد أتاك النذير.
أما بعد : فقد وضح لك الطريق ، فلا تحيدن عن إطاره إلى المضيق ، فقد مضت الأيام ، وذهبت الأعوام ، وفنيت الأعمار ، وأحصيت الآثار ، وعن قليل تدعى فتجيب ، وتصعق فتغيب ، فعجبا (١) لقلبك كيف لا يتصدع؟! وعجبا لركنك كيف لا يتضعضع؟! وعجبا لجسمك كيف لا يتزعزع؟!
أما بعد : فإنه ليس لحي في الدنيا من مقام ، وعما قليل يأتيك الحمام ، وكل خلق تفنيه الأيام ، فلا تكن كالغافل النوام ، فإنما الدنيا إلى انصرام ، ولن يرى فيها دوام.
أما بعد : فاتقوا الله ، عباد الله ، فيما تقدّم إليكم ، واحتج به عليكم ، من قبل اللهف والندم ، ومن قبل الأخذ بالكظم (٢) ، وانقطاع المدة ، واستكمال العدة ، ومن قبل التلاقي واللزام ، والأخذ بالنواصي والأقدام ، فكأن قد نزلت بكم نازلة الفناء ، وأخرجتكم إلى دار البقاء ، وكشف عنكم الغطاء ، وتجرعتم سكرات الموت ، وخضتم غمرات
__________________
(١) في (أ) و (ج) : فعجب. وكذلك ما بعدها.
(٢) الكظم : مخرج النّفس من الحلق.