الآخرة (١) ، وأتاكم ما كنتم توعدون ، وعاينتم ما كنتم تحذرون.
أما بعد : فإنه لا عذر لمن هلك بعد المعرفة والبيان ، ولا حجة لمن ركن إلى دار الفناء والحدثان ، ولا ندم يغني عند وقوع العيان ، ولا حيلة تنفع عند فوت الزمان ، وعند السياق وكلول اللسان ، لا ولد ينفع ، ولا أهل يمنع ، في مصرع هائل ، وشغل شاغل ، يدعا فلا يسمع ، وينادى فلا يجيب ، في غصص الموت وسكراته ، وتجرّع زفراته ، وغمومه وحسراته ، قد علاك الأنين ، وأتاك الأمر اليقين ، فلا عذر فتعتذر ، ولا ردة فتزدجر ، قد عاينت نفسك حقائق الأمور ، وحللت (٢) في مساكن أهل القبور في لحد محدور (٣) ، قد افترشت اللّبن بعد لين الوطاء ، وسكنت بين الموتى ، بعد مساكنة الأحياء ، فالنجاء النجاء ، قبل حضور الفناء.
أما بعد : فإن الدنيا أيام قلائل ، وكل ما فيها ذاهب زائل ، فتعز بالصبر عن الشهوات ، وتناء (٤) بالحذر عن اللذات ، وفكر فيما اقترفت على نفسك من الذنوب ، وفيما قد ستر الله عليك من العيوب ، أما علمت حين عصيته لم يكن بينك وبينه ، ستر يواريك منه.
أما استحييت من مولاك؟! وقد علمت (٥) أنه يراك ، أما خفت العقوبة حين آثرت على تقواه هواك؟!
أما بعد : فيا بؤسا لك من مخالف خاسر ، وخائن غادر!! أما إنك عن قليل ، تهجم على البلاء الطويل ، فتدارك نفسك إذ عرّضتها للمهالك ، واسلك بها طريق الواضح من المسالك ، ولا تطمعها في راحتها ، أيام حياتها ، واستطرف لها النّصب (٦) ، واحملها على التعب ، لما ترجو أن تصير إليه من الراحة غدا ، فكأنك قد دعيت فأجبت ، فاعمل
__________________
(١) في جميع المخطوطات : الآخرة. ولعلها هكذا (غمرات الموت أو الفوت). والله أعلم.
(٢) في (أ) : وحلّت.
(٣) الحدور : الهبوط. وسقط من (ب) و (د) : في لحد محدور.
(٤) في (ب) : وتبأ. مصحفة.
(٥) في (أ) و (ج) : تعلم.
(٦) استطرف : استفد. وفي (ب) و (د) : النصف. مصحفة.