والتحقيق في الجواب : يقتضي تقديم مقدمة : وهي ان التعارض في الأحكام الشرعية انما يكون بين دليلين ظنيين من جهة ، فقد يكون التنافي بين ظهورين وان كان سند كل منهما قطعيا ، وقد يكون بين نصين صريحين إذا كان سندهما ظنيا. واما الدليلان القطعيان سندا ودلالة وجهة فيستحيل وقوع المعارضة بينهما ، لاستلزامه التناقض ، بل لا بد في مثل ذلك من أن يكون أحد الدليلين واردا أو حاكما على الآخر ، واما الأحكام العقلية فيستحيل المعارضة فيها ، لاستلزامه حكم العقل بثبوت المتناقضين. ففيما نحن فيه لو التزمنا بالمعارضة بين القاعدتين لزم أن يكون العقل حكما باستحقاق العقاب وبعدمه في مورد واحد ، وهو محال.
إذا عرفت ذلك فنقول : ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان من الأمور المسلمة بين الأخباريين والأصوليين ، ولم يستشكل فيه أحد من العقلاء الملتزمين بالحسن والقبح العقليين. واما توهم معارضته بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فيدفعه ان الضرر المحتمل الواجب دفعه اما ان يراد به العقاب الأخروي ، أو يراد به الضرر الدنيوي ، أو يراد به المفسدة المقتضية لجعل الحرمة. فان كان المراد به العقاب ، فلا يخلو الحال في وجوب دفعه من أن يكون وجوبا نفسيا أو طريقيا أو إرشاديا.
أما الوجوب النفسيّ فهو على تقدير ثبوته لا يصح العقاب إلّا على نفس مخالفته ، لا على مخالفة التكاليف الواقعية المجهولة بعد فرض عدم وصولها إلى المكلف لا بنفسها ولا بطريقها ، فإذا فرضنا الواقع المجهول غير واصل إلى المكلف بوجه فقاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع احتمال العقاب على مخالفته ، فينتفي موضوع لزوم دفع الضرر المحتمل ، فيختص مورده بغير المقام مما تنجز الواقع فيه بمنجز من علم إجمالي وغيره. على ان الالتزام بالوجوب النفسيّ باطل من أصله ، لاستلزامه تعدد العقاب فيما إذا كان الاحتمال مصادفا للواقع ، ولا يلتزم به ، فان ارتكاب ما يحتمل فيه العقاب لا يزيد على ارتكاب ما يقطع بترتب العقاب عليه.