وإعجاب كلّ ذى رأى برأيه ، فعليك بنفسك ودع عنك العوامّ ، فإنّ من ورائكم أيّاما الصّبر فيهن كمثل قبض على الجمر ، للعامل فيهم أجر خمسين رجلا يعملون بمثل عمله. قلت يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال : أجر خمسين منكم». وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس ، والتمسّك بالدين بين ظلمة أهوائهم. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطّن نفسه على قدح الجهّال وأهل البدع وطعنهم عليه ، وإزرائهم به ، وتنفير النّاس عنه ، وتحذيرهم منه ، كما كان الكفّار يفعلون مع متبوعه وإمامه. فأمّا إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهناك تقوم قيامتهم ، ويتغوّلون له الغوائل ، وينصبون له الحبائل ، ويجلبون عليه بخيلهم ورجلهم. فهو غريب فى دينه لفساد أديانهم ، غريب فى تمسّكه بالسّنة لتمسّكهم بالبدعة ، غريب فى اعتقاده لفساد عقائدهم ، غريب فى صلاته لسوء صلاتهم ، غريب فى معاشرته لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم ، وبالجملة فغريب فى أمور دنياه وآخرته ، لا يجد له مساعدا ولا معينا .. فهو عالم بين قوم جهّال ، صاحب سنّة بين أهل بدع ، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع.
وثمّ غربة مذمومة وهى غربة أهل الباطل بين أهل الحقّ ، فهم وإن كثروا عددا قليلون مددا.
وثمّ غربة لا تحمد ولا تذمّ. وهى الغربة عن الوطن ، فإن الناس كلّهم فى هذه الدنيا غرباء فإنّها ليست بدار مقام ، ولا خلقوا لها. وقد قال صلىاللهعليهوسلم لابن عمر : «كن فى الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» (١)
__________________
(١) رواه البخارى عن ابن عمر كما فى الفتح الكبير.