وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات ، يجاب عنه بأن أكثر ما روى في أسباب النزول ، كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا. أعنى أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال. وهذا لا يدل على نزولها وحدها ، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه ، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة ، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة» (١).
وقال بعض العلماء : ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية ، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته ، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك .. يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.
ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع ، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى منها : كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام.
والمرحلة الثانية : كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها.
والمرحلة الثالثة : كانت بعد العودة منها.
أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها ، فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج من ذي القعدة أو في ذي الحجة.
وهذا ـ على الإجمال ـ هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه (٢).
والذي نراه أن هذا القول هو الذي تسكن إليه النفس في الحديث عن زمان ومكان نزول السورة الكريمة ؛ لأن الذي يستعرض آياتها يراها ـ في مجموعها ـ ترسم للمؤمنين ما يجب أن تكون عليه علاقاتهم مع المشركين ، ومع أهل الكتاب ومع المنافقين ؛ ومع غيرهم من الطوائف.
كما يراها ترسم لهم الطريق الذي يجب عليهم أن يتخذوه أساسا لدولتهم. ومنهاجا لحياتهم ، حتى تستمر عزتهم ، وتبقى كلمتهم عالية قوية بعد أن فتح الله لهم مكة وأذل الشرك وأهله.
كما يراها ـ أيضا ـ تتحدث باستفاضة عن أحداث قد وقعت خلال غزوة تبوك أو قبلها أو بعدها. وغزوة تبوك قد كانت في السنة التاسعة من الهجرة.
__________________
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ١٧٤.
(٢) تفسير «في ظلال القرآن» للمرحوم سيد قطب. الطبعة الخامسة سنة ١٣٨٦ ه وسنة ١٩٦٧ م.