آخرهم ، وبقي موسى وحيدا ، فقال : يا ربّ اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي ، فكيف يصدّقني قومي بما أخبرهم به؟! فلو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي ، أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟! فأحياهم الله من بعد موتهم» (١).
وقال أبو جعفر الطبري : واذكروا أيضا إذ قلتم يا موسى لن نصدّقك ولن نقرّ بما جئتنا به حتّى نرى الله جهرة : عيانا ، برفع الساتر بيننا وبينه وكشف الغطاء دوننا ودونه حتّى ننظر إليه بأبصارنا ، كما تجهر الركيّة ، وذلك إذا كان ماؤها قد غطّاه الطين ، فنفي ما قد غطّاه حتّى يظهر الماء ويصفو ، يقال :
منه : قد جهرت الركيّة ، أجهرها جهرا وجهرة. ولذلك قيل : قد جهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا ، إذا أظهره لرأي العين وأعلنه ، كما قال الفرزدق :
من اللائي يضلّ الإلف منه |
|
مسيخا من مخافته جهارا (٢) |
[٢ / ١٩٤٥] وروى بالإسناد إلى ابن جريج ، قال : قال ابن عبّاس : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) قال : علانية.
[٢ / ١٩٤٦] وعن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) يقول : عيانا.
[٢ / ١٩٤٧] وعن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : حتّى يطلع إلينا.
[٢ / ١٩٤٨] وعن قتادة : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : أي عيانا.
فذكّرهم بذلك ـ جلّ ذكره ـ اختلاف آبائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم ، مع كثرة معاينتهم من آيات الله ـ جلّ وعزّ ـ وعبره ما تثلج بأقلّها الصدور (٣) ، وتطمئنّ بالتصديق معها النفوس ؛ وذلك مع تتابع الحجج عليهم ، وسبوغ النعم من الله لديهم. وهم مع ذلك مرّة يسألون نبيّهم أن يجعل لهم إلها غير الله ، ومرّة يعبدون العجل من دون الله ، ومرّة يقولون : لا نصدّقك حتّى نرى الله جهرة ، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)(٤) ومرّة
__________________
(١) عيون أخبار الرضا ١ : ١٤٤ / ١ ، باب ١٢ ؛ التوحيد : ٤٢٤ / ١ ، باب ٦٥ ؛ البحار ١٠ : ٣٠٥ / ١ ، باب ١٩.
(٢) المسيخ : الممسوخ ، المشوّه الخلق. ومن الطعام : ما لا طعم له. الأحمق ... يعني : الأليف يضلّ منه حائرا مشوّش البال علانية.
(٣) يريد ما تثق به وتسكن إليه.
(٤) المائدة ٥ : ٢٤.