قال : في ذلك خلاف ؛ قال أبو عليّ : لا يجوز ذلك إلّا على من لم يضطرّه الله إلى معرفته. وقال بعضهم : يجوز التكليف في الحكمة ، وإن اضطرّ إلى المعرفة. قال : وقول أبي عليّ أقوى.
قال : وأعلّ الرمّانيّ (١) قول أبي عليّ الجبّائيّ ، قال : لمّا كان الشكر على النعمة يجب في المشاهد ، مع الضرورة إلى معرفة المنعم ، كان الشكر للنعمة (٢) التي هي أجلّ من نعمة كلّ منعم في الشاهد أولى أن تجب مع الاضطرار إلى المعرفة (٣).
ووجه القول الأوّل : أنّ الغرض من الطاعات لمّا كان هي المعرفة ، فلو حصلت ارتفع الغرض فارتفع التابع له. كما أنّ الغرض من الشرائع هو الاستصلاح في الأصول التي تجب في العقول ، فلو ارتفع ذلك الغرض ـ أي حصل بالفعل ـ ارتفع وجوب العمل بالشرع (٤).
وعمدة هذا الوجه : أنّ الغرض من التكليف هي المعرفة وحصول الكمال العقلاني ، فإذا حصلت الغاية ، فلا موجب للتكليف.
وأجيب بأنّ الحكمة في التكليف هو التعالي في الكمال ، ويتزايد بتزايد درجات الطاعة ، ومن ثمّ كان أصحاب الكمال في المعرفة ـ كالإمام أمير المؤمنين القائل :
[٢ / ١٩٧٢] «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» كانوا أشدّ اجتهادا في الطاعة والعبادة! وإنّما وجدوا الله أهلا للعبادة فعبدوه.
[٢ / ١٩٧٣] كما قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : «ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (٥). بل هو القائل : «كيف أعبد ربّا لم أره.» (٦).
كان عليهالسلام على كمال المعرفة ، ومع ذلك كان أشدّ الناس اجتهادا في عبادة الله سبحانه وتعالى.
وأيضا فإنّ العبادة أداء للشكر الواجب على جزيل الإفضال والإنعام. ولا نعمة أفضل من التكريم بكمال العرفان. وهذه هي عبادة الأحرار.
__________________
(١) أي رآه عليلا غير مستقيم.
(٢) وهي نعمة الرجعة إلى الحياة ليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الآثام.
(٣) وجه الاستدلال : أنّ العمل بالتكليف شكر على النعماء. قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ ٣٤ : ١٣).
(٤) التبيان ١ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.
(٥) البحار ٤١ : ١٤.
(٦) نقلا بالمعنى ، البحار ٦٩ : ٢٧٩.