أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جلّ وعزّ قد أخبر عنهم أنّه كتب لهم الأرض المقدّسة ، ولم يخبرنا عنهم أنّه ردّهم إلى مصر بعد إخراجه إيّاهم منها ، حتّى يجوز لنا أن نقرأ : اهبطوا مصر ، ونتأوّله أنّه ردّهم إليها.
قالوا : فإن احتجّ محتجّ بقول الله جلّ ثناؤه : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ)(١). قيل لهم : فإنّ الله جلّ ثناؤه إنّما أورثهم ذلك فملّكهم إيّاها ولم يردّهم إليها ، وجعل مساكنهم الشأم.
وأمّا الّذين قالوا : إنّ الله إنّما عنى بقوله جلّ وعزّ : (اهْبِطُوا مِصْراً) مصر ، فإنّ من حجّتهم التي احتجّوا بها الآية التي قال فيها : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ)(٢) وقوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ)(٣). قالوا : فأخبر الله جلّ ثناؤه أنّه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ثمّ لا ينتفعون بها. قالوا : ولا يكونون منتفعين بها إلّا بمصير بعضهم إليها ، وإلّا فلا وجه للانتفاع بها إن لم يصيروا أو لم يصر بعضهم إليها! قالوا : وأخرى أنّها في قراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود : «اهبطوا مصر» بغير ألف ، قالوا : ففي ذلك الدلالة البيّنة أنّها مصر بعينها.
والذي نقول به في ذلك أنّه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهل التأويل متنازعون تأويله.
فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إنّ موسى سأل ربّه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بيّنه الله جلّ وعزّ في كتابه وهم في الأرض تائهون ، فاستجاب الله لموسى دعاءه ، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك ، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلّا القرى والأمصار وأنّه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشام.
فأما القراءة فإنّها بالألف والتنوين : (اهْبِطُوا مِصْراً) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها
__________________
(١) الشعراء ٢٦ : ٥٧ ـ ٥٩.
(٢) الشعراء ٢٦ : ٥٧ ـ ٥٩.
(٣) الدخان ٤٤ : ٢٥ ـ ٢٨.