والإعنات في المسألة والإلحاح فيها إمّا للتفصّي من الامتثال وإمّا لبعد فهمهم عن مقاصد الشريعة وقصدهم التوقيف على مالا قصد إليه.
قد يقال : إنّ هنا تقديما وتأخيرا ، فأوّل القصة هو المذكور بقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ...) ، وإنّ قول موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ...) ناشيء عن قتل النفس المذكورة .. غير أنّ السياق فكّك بينهما تكريرا للتقريع عليهم في موقفين : موقفهم المستهزىء المستخفّ بموضع نبيّهم الكريم وموقفهم المتلكّىء المتدارىء في جريمة ارتكبوها ، فجاءت القصّتان مستقلّتين في سياقتهما : (وَإِذْ قالَ مُوسى ... وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ...) وإن كانتا متّصلتين متّحدتين ، لتكون الأولى تقريعا على الاستهزاء وترك المسارعة في الامتثال ، والثانية تقريعا على قتل النفس المحرّمة والتدارؤ فيه.
قال الزمخشري : وإنّما قدّمت قصّة الأمر بذبح البقرة ، لأنّه لو عمل على عكسه لكانت قصّة واحدة ولذهب الغرض في تكرير التقريع (١).
نعم قد فوجئوا بالأمر بذبح البقرة ، من غير سبب معروف لديهم ، وذلك تهييبا بموضع أنبياء الله العظام ، فيما يوجّهونه من أوامر وتكاليف ، فيتميّز المؤمن الخالص الإيمان عن المستسلم المتعنّت الغشوم.
***
وقصّة ذبح البقرة جاءت في سفر التثنية (أص ٢١) في غاية الإجمال ممّا أضاع الهدف منها ، جاء فيه : «إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله ، فإنّ أقرب المحلّات إلى موضع القتيل يخرجون بمشايخهم ، وليأتوا بعجلة لم تحرث ولم تجرّ بالنير ، ولتكن في واد لم يحرث ولم يزرع وفيه ماء جار فليكسروا عنق العجلة هنالك ويتقدّم الكهنة من بني لاوي وشيوخهم ويغسلون أيديهم على العجلة المذبوحة ويتبرّأون من دم القتيل ، فيغفر لهم».
هكذا جاءت قصّة الذبح بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح ، أهو إضاعة ذلك الدم ليذهب باطلا أم هو تعذّر عن معرفة المتّهم ، بالقتل؟!
__________________
(١) الكشّاف ١ : ١٥٤.