لا بل إنّكم ناكرتم رسالة نبيّكم الأوّل الذي أنجاكم من براثن الذلّ والصغار ، عاندتم موسى الكليم ذلك النبيّ العظيم.
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ). فهل كان اتّخاذكم العجل بعد ما جاءكم موسى بالبيّنات ، وفي حياته هل كان ذلك منكم من وحي الإيمان؟ وهل يتوافق ذلك مع دعواكم أنّكم تؤمنون بما أنزل إليكم؟!
***
نعم لم يكن اتّخاذهم العجل البادرة الوحيدة التي اتسمت بها إسرائيل في حياتها الكدرة بل كان هنالك الميثاق عند الصخرة الهاطلة وكان هناك التمرّد والعصيان بشكل أمرّ.
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا).
فهل أطاعوا وهل رضخوا للحقّ الصريح؟ نعم أظهروا الطاعة وخالفوا في العمل!
(قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا ...)
هذا لسان الحال وليس لسان القال. ولقد كان استسلامهم حينذاك إظهارا للسماع والطاعة. ولكن تمرّدهم المتواصل بعدئذ كان بيانا عن حالتهم التعنّتيّة الجامحة.
وهذا الجموح والشقاق إنّما هو أثر تلك الطبيعة الغاشمة العاتية المائلة إلى الغيّ والانحراف عن جادّة الحقّ الصراح فكأنّما عجنت جبلّتهم بالغثاث واللجاج :
(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) فكأنّما أشرب قلوبهم الجنوح نحو الباطل ومن ثمّ ذاك الجموح أمام الحقّ.
والإشراب في القلوب أبدع تصوير لحالتهم التعنّتيّة الزائفة فهي صورة فريدة. لقد أشربوا فكانت حالة انفعاليّة متميّعة لا صلابة فيها ولا ثبات.
وأشربوا ماذا؟ أشربوا العجل وما هي إلّا صورة ساخرة هازئة ، صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا ، ويحشر فيها حشرا ، حتّى ليكاد يذهب بمعنى الحبّ إلى أقصى مراتبه في التفاني وميوعة الذات وفي النهاية إلى التعامي في الحياة.
الأمر الذي استدعى أن لا يروا الحقّ حقّا ويرضخوا إلى ما عشقوه من الزهو الباطل فقد غطّيت وجوههم وختم على قلوبهم.