قال ابن عاشور : ولعلّ إسناد هذا التقديس للكواكب ، ناشىء عن اعتقادهم أنّهم كانوا من الصالحين المقدّسين وأنّهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب ، فيكون هاروكا وماروداخ قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر.
قال : ولعلّ هذا وجه التعبير عنهما في القصّة بالملكين ـ بفتح اللام ـ!
قال : ولأهل القصص هنا قصّة خرافيّة من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة. اعتاد بعض المفسّرين ذكرها وأشار المحقّقون إلى كذبها وأنّها من مرويّات كعب الأحبار ، وقد وهم بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بعض الصحابة بأسانيد واهية. (١)
وعليه فقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) أي ما ألهما من غرائب العلوم ، والعلم برموز الدسائس المفرّقة ، ومعرفة طرائق حلّها وإبطالها.
والتعبير بالملكين حكاية عن زعم زعمته اليهود بشأنهما كما زعمت أنّ ما كانت تتلو الشياطين على ملك سليمان أنّه كان بمرأى ومسمع منه وعن رضاه.
فالله تبارك وتعالى يحكي هذه المزاعم ليفنّدها ولا يتسلّم لها.
***
وقوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) جملة حاليّة من هاروت وماروت. وما نافية. والتعبير بالمضارع لحكاية الحال ، إشارة إلى أنّ قولهما لمتعلّمي رموز السحر : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) ؛ قول مقارن لوقت التعليم لا متأخّر عنه.
والفتنة : لفظ يجمع معنى مرج واضطراب حال وتشتّت بال ، بإحساس الخوف والخطر على الأنفس والأموال ومنها فتنة المال وفتنة الدين.
ولمّا كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها ، كان من لوازمها الابتلاء والاختبار. فكان ذلك من المعاني التي يكنّى بالفتنة عنها كثيرا.
وإخبار الملكين عن أنفسهما بأنّهما فتنة ، إخبار بالمصدر للمبالغة ، وقد أكّدت المبالغة بالحصر الإضافي. والمقصد من ذلك : أنّهما كانا يصرّحان بأنّ في علمهما الذي يعلّمان الناس ، جانبا خطيرا
__________________
(١) راجع : التحرير والتنوير ١ : ٦٢٤.